محمد قدرى حلاوة يكتب: « شالله يا ست » (ج2)
بيان
(٤)
الموت؟.. يبدو لنا معنا غامضا بعيدا ونحن صغار.. الروح والميت وزيارة قبره أشياء يشعرنا الحديث عنها بالخوف والرهبة أكثر منه بالحزن.. نحن لا نعرف سوي الحياة.. نخوض غمارها ونجول دروبها بالدهشة والشغف واللهفة.. يدفعنا الفضول للسؤال عن كل شئ وأي شئ.. كنا لا نفهم معني الموت ولا ندركه.. كان لابد من تجربة قاسية تعلمنا معني الفقد والبعد.
صوت البكاء والعويل.. ملامح الصدمة والذهول.. ماذا حدث؟.. أين جدي؟.. ربتت والدتي على كتفي وقالت وهي تضمني وتبكي ” هوه دلوقتي في مكان أحسن.. عند ربنا”.. لماذا يصرون على ألا يذهب الصغار ” للدفنة”.. ” أنتوا لسه صغيرين مش هتستحملوا المنظر”.. ملامح الذهول والبكاء جعلت الكبار يبدون أيضا أنهم لا يعون ولا يتحملون الموقف أكثر منا.
كان الميت يعود للحياة أحيانا في قصصنا الصغيرة التي نقرأها.. هل يتمكن جدي من العودة إلى الحياة؟.. أضفت الملابس السوداء على المشهد مزيدا من الحزن والكآبة.. أخذت أنظر إلي صورته المعلقة بوجهه الطيب وعيناه الحزني.. خلت أنه ينظر إلى.. ويمسح شعر رأسي وهو يناولني الحلوى كما أعتاد.
كان مغرقا في صمته كما بدا دائما.. شديد الحنان والرفق.. كنا نجري ونلعب ونقفز على الفراش وهو نائم.. لم ينهرنا أبدا.. كان يخرج رأسه من تحت الغطاء وينظر لنا مبتسما ثم يعاود النوم ثانية بهدوء.. هل يصحو تلك المرة من نومته الأبدية؟.
أبخرة الطعام تتصاعد من المواقد.. آنية ضخمة ممتلئة باللحم والمرق والأرز الأبيض.. صحون ” الفتة” تملأ الموائد.. لابد أن يأكل الزوار والأقارب والمعزين.. ” صبي” الفراشة يتحرك كالبهلوان بالسلم الطويل لنصب السرادق.. كيف يفعل ذلك دون أن يسقط؟.. بدا لي حينها لاعب سيرك أو ساحر كبير.. أسلاك الكهرباء تمتد معلقا فيها المصابيح.. وصوت الميكرفون ينادي ” آلو.. آلو.. واحد.. اتنين.. ثلاثة..”.. الكراسي مرتصة والأهل والجيران يتقدمون سرادق العزاء.
يبدأ الشيخ في ترتيل الآيات بينما السيدات يجلسون بالمنزل يتبادلون الحديث والكلمات وتذكر مناقب الفقيد.. ” عمره ما تعب حد ولا تقل عليه.. حتى في عياه مطولش.. حب يريح اللي حواليه “.
بدأت مظاهر الحزن الصادمة تتواري مفسحة المجال للذكرى والحنين.. ” صحيح يا جماعة البني آدم سيرة.. شوفوا كام واحد جه يعزي فيه.. وليلته كانت سهلة وخفيفة.. أقروا له الفاتحة”..
بدأ السرادق يخلو والأنوار تطفأ.. والمعزين ينتحون ببعضهم جانبا ويتبادلون الأحاديث وبعض الضحكات الخافتة الخجولة.. أنصرف كل إلى طريقه.. فراشه بدا خاليا باردا.. الوسادة لا تزال تحمل آثارا من شعر رأسه الأبيض.. الملآه مجعدة كأنه غادرها للتو.. علبة سجائره التي لم ينتهي منها وعلبة الثقاب.. ساعته القديمة.. وحافظة النقود.. زجاجة الدواء وكوب ماء لم يتسنى له الإرتواء منه.. ملابسه معلقة خلف الباب.. كمادات المياه لإزالة العرق الغزير حول جبهته الصامدة.. أي سخرية تلك أن نذهب نحن وتخلد بقايانا؟.
(٥)
علي ناصية ” الحارة” فى مدخل شارع ” مراسينا” كان يقف عم ” الجحش” صاحب عربة ” الفول” الشهير.. بمحاذاة سور المدرسة ” التجارية” أمام مدرسة ” محمد علي”.. يبدأ العمل دوما ليلا حوالي التاسعة مساء.. رجل متوسط القامة يقف مرتديا جلبابا فوقه ” مريلة” بيضاء لها جيب كبير يضع فيه النقود.. ” السيجارة” لا تفارق زاوية فمه ولا يكف أيضا عن الدعابة البذيئة.. جمع غفير من البشر ينتظرون دورهم للحصول على طلباتهم..” كلوب ” كبير معلق يضيئ ما حول العربة وبضعة مصابيح بيضاء معلقة على ” سلك” متصل بعمود كهربائي.. يأخذ في ” غرف” الفول في أطباق متراصة أمامه ” بمغرفة ” كبيرة من ” القدرة” المتقد تحتها موقد صغير.. ثم يبدأ في ” صب” الزيت و الطحينة و” عصر” الليمون و ” رش” الملح والشنطة عليها.. مضيفا ذلك الإختراع الرهيب ” الدقة”.. يمكنك أن تطلب معه تلك” السلطة” العجيبة بمائها الحار.. أو بعض” الباذنجان” المخلل الذي كان يبرع في صنعه.
كنت أقف أمامه وسط الزحام حاملا طبقين من المعدن منتظرا دوري.. كان يبتسم ويتناول الأطباق ويملؤها بالفول والسلطة وعندما كان أحد الواففين يصيح محتجا كان يقول له ضاحكا بصوت عال ” نمشي الصغيرين الأول يا جعر”.
مع الوقت وذيوع صيته.. بدأت بضعة مناضد ومقاعد ترتص على الرصيف حوله.. وسيارات تأتي من كل حدب وصوب لتناول طعام العشاء وقضاء السهرة في الميدان العتيق.
أما ” الطعمية” فلم يكن هناك أشهى ولا أنظف من طعمية ” عم مرسي”.. كان محله الصغير ذو الباب الخشبي ودهان” الزيت” الأخضر هو ما يميزه.. لا توجد لافتة تدل عليه وقد لا يعرفه أحد سوي أهل المنطقة.
في الصباح الباكر تبدأ ماكينة ” فرم” مكونات ” الطعمية” فى الهدير والدوران..” الفول” المدشوش و”الخضرة” وفصوص ” الثوم” تطحن بيد معدنية تأخذ شكل كف الإنسان المبسوطة وتحيلها إلى عجينة خضراء هشة.. يتجمع المارة وقد حمل كلا منهم ” قرطاسا” ورقيا منتظرا خروج أقراص ” الطعمية” الساخنة بعد قليها في الزيت.
“عم مرسي ” لا يمارس نشاطه سوي في الصباح.. إذا أردت مزيدا من السحر فعليك تناول ” الساندوتشات” وقد أضاف إليها ” السلطة” وقطع ” الباذنجان” المخلل.. مذاق لا يتكرر ورائحة لا تعود.. أغلق المحل بعد وفاة ” عم مرسي”.. وظلت ماكينة” فرم” الطعمية بداخله ساكنة لا تهدر.. و الذراع الحديدي المخيف ذو الأصابع كليل أصابه الشلل.. تجثم خلف الباب الخشبي الأخضر بزجاجه المشروخ والملحوم بقطعة من ” البلاستر ” وقد غطت أحد مربعات ” ضلفه” المنكسرة نتيجة كرتونية قديمة.
(٦)
كانت مظاهر تناقضات مثيرة تحدث من حولي ولا أعيها أو أتفهمها بعد.. ملامح صراع خفي يدور بين توجهات وقناعات وتغيرات تغير وجه المجتمع وتشوهه بدأب وإصرار.. كان عصر الإنفتاح قد بدأ ينشر قيمه ومفرداته وشخوصه ومنظرّيه وطبقات منتفعيه.
” بور سعيد” تلك المدينة الباسلة التي تصدت للعدوان الثلاثي عام ١٩٥٦.. ودمرت عام ١٩٦٧.. وهجر أهلها.. أعيد بناؤها عام ١٩٧٤.. وفي العام التالي أعلنت مدينة حرة.
ارتبطت “بور سعيد” حينها في أذهاننا بأنها بلد الملابس المستوردة الفاخرة وعبوات ” السفن آب” المعدنية.. والعطور الفاخرة والشامبوهات والصابون العطري.. كانت قيم الاستهلاك تطغى وتحل وتسود على قيم الإكتفاء.
سباق محموم نحو الاقتناء والتمايز الإجتماعي كانت قد بدأت.. ” بور سعيد ” ” السيد عسران” و التلميذ ” حسن سليمان” و ” محمد مهران” و ” حامد الألفي ” و ” زينب الكفراوي” و ” جواد حسني” توارت وتواروا جميعا.. صارت ” بور سعيد” هي ” الحي الأفرنجي” و ” الحي التجاري”.. هكذا نشأنا ووعينا وتشكلت عقولنا.. وحل الثمن محل القيمة.
لم يخلو حينا من مظاهر الإنفتاح ورجاله.. بدأ بعض وجوهه المبهرجة بالألوان الزاعقة تغير من وجه الحي.. ظهرت” البوتيكات ” التي تعرض السلع المستوردة الفاخرة جنبا إلى جنب وليس بعيدا عن محلات القطاع العام والمجمعات الإستهلاكية.. ونمت ظاهرة تجار الشنطة – أولئك الذين يسافرون للخارج ويستجلبون السلع المستوردة ويهربونها من الجمارك – كنت ترى ” بوتيكا” يبيع الملابس الفاخرة ملاصقا” لعمر أفندي ” وهو يوزع ” الكساء الشعبي” و ” الكستور” على البطاقات التمونيية.
كنت أحلم بشراء ” دراجة” بالقسط من فرع ” عمر أفندي” بجوار مدرسة ” السنية” وأذهب لتأملها كل يوم في ” فاترينة” العرض.. ليس بعيدا عنه على بعد نحو ثلاثين مترا في شارع ” مراسينا” افتتح معرض” زجمار” وبدت الدراجات الفاخرة المعروضة فيه كقطع مجوهرات تطغي ببريقها على دراجتي الأثيرة المتواضعة وأصبح مشوار الحنين اليومي يذهب نحو “فاترينة زجمار” وتبخر سريعا الحلم القديم.
كنت أسير في الركب دون أن أدري بينما أغني وأنا أسير ” زجمار ياما عنده حاجات.. وكمان الموتيسيكلات”.. مرددا الإعلان التلفزيوني الشهير وقتها.
بدأ الصراع مكتوما في البداية حتى حين.. وحوش كاسرة جديدة تسفر عن أنيابها نهمة تريد إبتلاع كل شئ.. وجموع غفيرة أخرى لا تكاد تقتات بشئ.. لم يأتي العصر الجديد ليدرس تجارب العصر السابق.. يتجنب الأخطاء ويعظم الإيجابيات…لكنه أتى ليمحوه محوا.. فكان الصدام حتميا.. وتجلت مظاهره في إنتفاضة الخبز في يناير ١٩٧٧.
كان الغضب عارما كاد أن يقتلع في طريقه الأخضر واليابس.. لكن الأمور قد جرت لمقاديرها.. وذهب الأخضر وبقي اليابس ينبت مسوخه وقيمه الشائهة.