محمد قدرى حلاوة يكتب: « شالله يا ست » (ج3)
بيان
(٧)
” الحرم الزينبي”.. يبدو رحيبا فسيحا تمتلئ أركانه بالزخارف والنقوش البديعة والسجاد الفاخر.. تزدان القبة والمئذنة في المواسم والأعياد بفروع الزينة والأضواء اللامعة.. ينتشر من حوله حشد غفير من الباعة الجائلين.. الحلوى الرخيصة والحلى النحاسية والأطعمة الدسمة.. يأتي زوار ” الست” من كل حدب وصوب.. يتزاحم البسطاء حول قضبان الضريح المذهبة يناجونها ويبثوا إليها أحزانهم وشكواهم.. يأتون بالأماني الحارقة في الصدور متوسلين ” البركات” لتتجسد الآمال والأحلام.. ينفعل أحدهم وهو يجهش بالبكاء ” جايلك يا طاهرة.. متردنيش خايب”.
يغادرون الضريح وقد شعروا بالرضا والراحة والسكينة الغامرة.. قد لا تتحقق رغباتهم ولا توسلاتهم.. يكفي المرء أحيانا أن يزيح عن نفسه عبء ما يجيش في أعماق الحشا والصدور.. مأساة وهم ثقيل طاعن ألا يجد المرء من يسمعه.. ” وأم العواجز “” المشيرة ” التي لا تخذل أحدا.
هل يحق لنا أن نرميهم بالجهل والتخلف؟.. وهل نملك نحن سلطة وسطوة الإيمان واليقين؟.. المجتمع يلعن الأمية في كل وقت.. لكنها مرغوبة ومثمنة للغاية.. فهي لا تستدعي التساؤلات المؤرقة.. ولا تطلب شرحا ولا أسبابا.. هل هناك نعمة أكبر من ذلك لكل من يطغى ويسود؟.. العلم والمعرفة مأساة وشقاء وضمائر مؤرقة.. إما أن تقمع فكرك وأسئلتك وتصمت عنها.. وإما أن يقمعك الآخرون ويفرضون عليك هكذا خرس وصمت .
البعض افترش ساحة المسجد وغط في نوم عميق.. بعض آخر وقف يصلي.. وثلة من المريدين قد تحلقت تستمع إلى قراءة عطرة بصوت الشيخ ” الشعشاعي”.. وقد علت صيحات الإعجاب: “الله… أعد.. الله يفتح عليك يا مولانا”.. أما عندما كان يأتي الشيخ” عبد الباسط عبد الصمد” أو ” مصطفى إسماعيل ” أو ” الطبلاوي” فتلك قصة أخرى يتحاكي بها المستمعون ويتباهي بها المريدون.
المسجد يمتد من الميدان حتى شارع ” السد”.. يندر أن تجد محيطه فارغا خاويا.. هو دائما مزدحما ممتلئا بالصخب والضجيج.
بشر بسطاء يعرضون بضاعتهم الرخيصة ساعين في الأرض.. آخرون ” فهلوية” ولا يخلو الأمر من المتسولين والنصابين أحيانا.
مهرجان من الوجوه والملابس.. وقد وقف رجل ذو جلباب أبيض و” عمة” خضراء يحمل “المبخرة” ويحركها بيده في حركة دائرية هاتفا بصوت عال ورأسه يهتز: “حي”.. ” الشموع” والمسبحة ذات الألف خرزة.. كل ذلك لا تجده ولا يجتمع سوي في حب ” رئيسة الديوان”.
في أيام ” المولد”.. طوفان من البشر البسطاء كانوا يأتون إلى شارعنا بحي ” السيدة زينب” بضعة أيام كل عام ثم يرحلون.. كانوا ينصبون خيما بسيطة من القماش ينامون تحتها.. وهم يوقدون المواقد وتتصاعد رائحة الطعام و أبخرة برادات الشاي لتملأ الأجواء.. يعلو أصوات أجهزة التسجيل بالمدائح وروايات السير الشعبية.. وينتشر الزحام والضجيج في أيام تخلو من النوم ويحلو فيها السهر.
من وسط الميدان كانت تأتي صيحات الميكروفات عالية صاخبة: ” المعلم الركيب بيضحي.. الوجبة بربع جنيه”.. ليرد عليه نداء أخر: ” إحنا الأصل.. كل اللي نفسك فيه بريال (عشرون قرشا).. كله عشانك يا ست”.
وكانت الموائد تمتد في الميدان والشوارع الجانبية.. ويجلس عليها ألاف البشر والعابرين يلوكون الطعام ويشربون المشروبات ويجشأون أحيانا.. والنادلون لا يتوفقون عن الحركة وتلبية الطلبات وبعض الصبية يقفون لإجتذاب الزبائن والنداء عليهم.
سرادقات الفراشة منصوبة هنا وهناك.. بينما يقف أحد المنشدين يرتدي جلبابا نظيفا ويمسك بيده بمكبر الصوت وهو ينشد المدائح في آل البيت.. بينما إلتف حوله حشد من المريدين يتمايلون بأجسادهم وتذهب رؤوسهم يمينا ويسارا.. ويستمر “الدراويش” و “أتباع الطرق” هكذا في حركة دائبة ولا يتوقفون عن حركتهم الدائبة سوي حين يتوقف المنشد أو يتهالكون من التعب.
وهكذا تدور دورة الحياة.. قوم بسطاء يتمنون ويرجون يسكنهم الأمل.. وقوم منتفعون وسدنة وكهان يتاجرون ويربحون من الآمال والأحلام.. ومولد ينصب وينفض كل حين وعام.. والبسطاء لا يجنون ثمرة أحلامهم أبدا.. ورغم ذلك لا يكفون أبدا عن الحلم والأمل والتوسل.. عله يتجسد واقعا يوما.. أو يسبقهم الأجل.
(٨)
في حارة صغيرة متفرعة من شارع ” زين العابدين” يقع دكان ” عم سامبو” لتأجير الدراجات.. كلما تذهب إليه لإيحار دراجة تجده جالسا أمام ” عجلة” مقلوبة وقد أخذ يصلح الجنزير.. ملابسه مملوءة ببقع الزيت ويداه تغطيها الشحوم.. حوله طبق معدني صغير ملئ بالزيوت وقد إنتثرت مفاتيح ” العدة” حوله في كل مكان.. ثمة دراجات معلقة على باب المحل وأدراج خشبية عتيقة بداخله وقد إمتلأت بالأدوات وقطع القماش المشحمة.. ينظر إليك عندما تحدثه من خلف نظارات سميكة مليئة بالدوائر وتبدو عيناه من خلالها كنقطة صغيرة غارقة في دوامة بحر عميق.
” عابد” الصبي الصغير يتحرك بخفة ونشاط ويحمل ” العجل” ويتقاضي أجرة الإيجار واضعا إياها في درج صغير منزوي.. يمسك ” بالمنفاخ” ويظل يصعد ويهبط بجسده متعرقا بشدة.. كان ” عابد” لطيف الملامح مهوش الشعر ذو عينن حادة لامعة .. يستغل فرصة غياب ” عم سامبو” عن المحل لقضاء غرض ما.. حينها يمتطي دراجة كبيرة ويظل يدور بها ويسير بسرعة شديدة.. ثم يتوقف في ” فرملة” مفاجئة واقفا بها في الهواء.. كان كأنه يقول لنا لست أقل منكم مهارة ودربة بل أزيد وأفوق.
يوما عابسا عاد ” عم سامبو” فجأة ووحده يلهو ويلعب.. لطمه لطمة شديدة على وجهه.. لم يبك ” عابد” وإن أخذت الدموع تجاهد للفرار من عينيه ويقهرها بسياج الصمت والتمنع.. أخذ يمسح الدماء الساقطة على شفتيه بطرف ” كمه” واصل عمله بنشاطه المعتاد متحاشيا نظراتنا الفضولية.
جلس ” عابد” على الرصيف يأكل بنهم ” ساندوتشات” الفول والفلافل.. صامتا ينظر بعينيه الحادة صوب الفضاء.. بدا هائما شاردا في اللاشئ.. وفي كل شئ.. لم ينس أن يظل يمسح دماء شفتيه بين فينة وأخري وقد أختلطت بها بعض بقايا الطعام.
كنا قد تجاوزنا وقت الإيجار بربع ساعة.. نظر عم ” سامبو” إلى ساعته وقد قرب عينيه منها حتى كادت تلاصقها.. إلا أنه كان متسامحا دائما.. لم يطلب أجرة زائدة.. لم نكن ممتنين له يومها كعادتنا.. كنا ساخطين من أجل ” عابد”.. الذي كان مازال يلوك الطعام ساهما في الفضاء والسديم المجهول.
مر الزمن ولم تختف ظاهرة عمالة الأطفال.. ولم ينته الحديث عنها أيضا في المؤتمرات والندوات المنشاة الناعمة داخل القاعات المكيفة.. أعداد لا تحصى مثل “عابد”.. لاشئ جديد.. سوي أعداد تنمو وتزداد.. وفائض حديث جزل شفوق.. وأوراق ووثائق مكتوبة ستخبر من يأتون بعدنا بأننا كنا قوم خير ورحمة.. لم نصمت ولم نتجاهل.. أليس التاريخ محض وثائق وأوراق مكللة بالزيف؟.
(٩)
أسر لي صديقي هامسا ونحن نسير بجوار مسجد ” سنجر الجابولي” قائلا: ” العفاريت تبيت هنا ليلا” .
المسجد يقع في زاوية من شارع ” مراسينا” فى الطريق إلى مسجد ” بن طولون”.. كنت أهرول كلما مررت من أمامه بعد أن علمت السر من صديقي متحاشيا النظر إلى نوافذه البديعة حتى لا أرى وجوه العفاريت المرعبة.
أقف بعدها لاهثا أمام محل” عصير الحرم ” مستمتعا بتجرع” شوب” عصير ” القصب” المثلج وقد تجمعت قطرات الماء المنداة على جانب الكوب وهو يعتليه الفورة البيضاء لماء القصب المصفر المائل للخضار.
كانت هناك أحبالا من ” الدوبار” في واجهة المحل معلقا عليها مجسمات ” بلاستيكية” من أنواع الفاكهة المختلفة.. وقد تدلت ” شبكات ” المانجو ” و ” البرتقال “.. منضدة عريضة من” الصفيح ” أمام البائع متراصا عليها” جراكل ” عصير المانجو.. وستارة معقودة تكمن خلفها ماكينة عصر القصب.
كنت أرى أعواد ” القصب ” الفارعة” تكبس ” من أعلى لتخرج من أسفل سائلا رقراقا يتجمع في إناء معدني كبير.. يتاوله عم” رضا ” ويرفعه مسقطا السائل داخل الأكواب المتراصة أمامه بمهارة ودقة.. يأخذ بعدها في صب دفعات من الماء فوق المنضدة ومسحها بقطعة قماش صفراء.. بينما هناك آخر ينظف الأكواب في حوض صدئ تحت تيار ماء لا يتوقف.
يجلس في مقدمة المحل الحاج ” شرف” مرتديا جلبابه العريض وملتحفا بقطعة حريرية مزخرفة حول عنقه ” اللاسة” ومعتمرا قبعة من طبقات القماش البيضاء الملتفة.. كان يبدو مهيبا بشاربه الكث وجسده العريض وأوداجه المنتفخة.. بعد أن تناوله النقود يعطيك ” ماركة” ملونة.. كل لون حسب نوع العصير المطلوب.. أعتقدت لوهلة أن ” ماركات” لعبة ” السلم والثعبان” و ” الليدو” يعطياني الحق في الحصول على العصير بمجرد تقديمها للبائع.. إلي أن نبهنا عم ” شرف” بلطف لضرورة دفع النقود مقدما.. وهو يضع شريط كاسيت في باب المسجل لتنطلق بعدها أصوات الغناء بالمدائح النبوية.. كان لا يعلم حجم المخاطرة التي أتكبدها حتى أصل إليه مارا ببيت العفاريت المتيقظة طوال اليوم ليلا ونهارا.
أحيانا ما أحجم عن خوض المغامرة مكتفيا بالذهاب لثلاجة ” عم فايز” فى مدخل الحارة لتناول مشروبا مثلجا من ” السي كولا” أو ” الإسباتس”.
يجلس ” عم فايز” على قالب من الطوب الإسمنتي بجوار ثلاجة من المعدن.. يضع على وجهها قالبا كبيرا من الثلج المغطي ” بالخيش ” وقد إرتصت زجاجات المثلجات من تحتها.. خلفه ” ضلفة” خشبية بداخلها علب السجائر و ” بواكي المعسل”.. و راديو ” ترانزستور ” معلقا بمسمار على الحائط من ورائه.. يأخذه مقربا إياه من أذنه كلما حل موعد نشرة الأخبار بإذاعة ” صوت العرب”.. ما يخيف فقط هي تلك الكلاب الكثيرة الملتفة من حوله والتي أعتاد أن يحضر إليها بقايا الطعام ويربت عليها بيده.
كانت الكلاب تصمت وتسكتين بإشارة من يده وتمضي مستلقية على الرصيف في هدوء.. كان يقول لي بإبتسامة محببة: “متخافش من الكلب.. خاف من البني آدم “.. كم كان ” عم فايز” محقا صادقا.