محمد قدرى حلاوة يكتب: حقل القطن الأبيض
بيان
كان صوت إصطكاك المقص يقرع في أذني بينما شعيرات الشيب تصطحب بقاياها السوداء.. تسقط متناثرة في هدوء على القميص الأبيض المطوق للعنق.
منذ متى طغى اليباس على الخضار وبار الحقل؟.. لا أعلم تحديدا.. لكنه كان زحفا بطيئا في لواحه سريعا داهسا كوطئ الزمان وإستحالاته.
بعضا من ” الكولونيا” اللاسعة تمر على مسام الوجه الجرداء من نبتها.. وبقايا نقاط دماء تبرز من اللحية مصحوبة بابتسامة لطيفة من ” الحلاق”: “معلش أصل الموس الجديد تملي بيبقى حامي شوية”.. لا بأس من تلك الخسائر البسيطة مقابل أن تعود الرأس لاستقامتها بعد أن كلت من التحرك كالكرة بين يدي الرجل الباسم الذي أخذ ينظف ” المشط” و ” المقص” وينفض القميص الأبيض في الهواء من آثار الشعيرات العالقة.. بينما يمرر المرآه على جوانب الرأس مظهرا حسن صنعته.
رأيته مارا ببطء وتؤدة كعادته.. أيكَون هو؟.
نفس العينين الخضراوين لم تخفي عويناته حسنهما.. الشارب المشذب.. قامته السامقة.. أناقته المعتادة الممزوجة ببساطة مدهشة… فقط ثمة تغيرات جدت وطرأت.
بدا الفارس الممشوق بادي الهزال، شاحب الوجه بعد طول تورد.. شارد الذهن بعد حدة.. شعره البني الخشن المائل للصفار إستحال بياضا كحقلا من القطن.. ظهره المحدودب أحال قامته الفارعة كاهلا منحنيا يسبق خطوات صاحبه.
تذكرته وهو صغير يقفز فوق الشجرة برشاقة باهرة ملقيا علينا ثمر التوت الأسود مستلذا وهو يلوكه بنهم قبل أن يقفز هابطا .. يبدو الأمر صعبا الآن.
كان مظهره أقزب ما يكون لفارس يوناني قديم.. صار أدني إلى هيئة تمثاله الأبيض ورأسه مطوق بالغار..ما بال الزمان يعبث بنا إلى هذا الحد؟.. يلهو بريشته تجريدا بالتغصنات في الوجوه.. وبألوانه في الجسد والرأس.. وبأزميله في البدن والقامة.
كان يجلس على العشب يتوسطنا وهو يتحدث مفاخرا عن ميداليته الذهبية في رمي القرص.. صار مرشحا للانضمام لمنتخب الناشئين.. شهورا قليلة ويسافر ” ألمانيا الغربية” ( عام ١٩٨٤ قبل توحيد ألمانيا بنحو خمسة أعوام).. كسر عميق أصاب معصمه الأيمن بعد أن سقط وهو يقود الدراجة.. ضاع حلمه وأمله.. فشل في أن يعود سيرته الأولى.. بكى كثيرا وانتحب.
منذ ذلك اليوم تغير ” شادي”.. أنزوي وانتحي بنفسه جانبا معزيا حلمها يواسيها.. مأساة أن تتلخص الحياة حلما وحيدا يتبدل كابوسا.. صار معتزلا خلف باب حجزته متقوقعا في شرنقته متيبسا كالجدران لا يغادرها إلا قليلا.. يرفض أن يشرع النافذة.. يأبى خيوط النور مستئنسا بالظلام.. متدثرا به.
صوره اللامعة وهو يبتسم مزهوا والميدالية الذهبية تطوق عنقه استحالت إلى الصفار.. مالت على الجدار وتآكل إطارها وحبلها.. كان ينتظر حثيثا أن تسقط وحدها كما سقط حلمه.
أحيانا ما نفتقد الشجاعة في مواجهة ضباب الحلم والأمل الضائع.. نقنع بغيمه.. نستظل به.. نخشى الحقيقة.. تلك الصافعة التي نفر منها دوما ونردد كذبا أننا نبحث عنها.
يقول بعض الرواة أنه منذ ذلك اليوم المشئوم.. بدأ إحدداب ظهره.. طرح حقل القطن في رأسه.. اليأس هلاك عندما يحتل محل رجاء الأمل.
ظل شجر التوت يطرح.. لم يجد من يتسلقه ويقطقه ويستلذ به.. سقط أرضا تدهسه أقدام العابرين.. نفس التوت الأسود.. وذات الشجرة.. لكنها تغيرات الزمن.. عصف الفصول وتقلياتها.. مراوغات الأمل وصفعاته.
” نعيما”.. استفقت على صوت الحلاق يحدثني برفق باسما.. لمحت ” شادي” ينظر إلى من تحت عويناته ويهرب مني بعيونه.. ترى هل يتذكرني؟.. هل أتقدم نحوه لأصافحه؟.. أم أظل أقترن في ذهنه بذكرياته الأليمة وحلمه الذبيح؟.. فضلت أن أغادر صامتا بعد أن أشاح بوجهه عني وندت عن قسماته ارتسامات حزن وأسي.
دسست يدي في جيبي نازعا حفنة من النقود ناولتها للرجل المكتنز الجالس في أحد الأركان.. وهتفت في الجالسين مسرعا الخطي ” نعيما مقدما”.. بينما صوت ماكينة الحلاقة تحصد هادرة حقل أخر من القطن الأبيض.