محمد قدرى حلاوة يكتب: المعركة الأخيرة 

بيان

” عم محمود أبو دقن”.. هكذا كنا نسميه ونحن أطفال صغار.. كان طويل القامة.. رفيع القوام.. صاحب لحية كثة.. يترك شعر رأسه طويلا منسدلا علي أكتافه وعلي جبينه.

كان يبدو غير منمق الملابس.. يتركها منهدلة بغير هندام.. ويرتدي ألوانا غير متناسقة.. يترك لفافة التبغ مائلة علي شفتيه دائما والدخان يتصاعد من حوله كمدخنة مصنع قديم.. ويدع عادم لفافته يسقط بلا اعتناء علي ملابسه تاركة آثار نقر محترقة تبدو علي أرديته بوضوح.

كان دائما ما يملأ جيبه بالحلوي الرخيصة ويوزعها علينا ويربت علي رؤسنا متبادلا معنا حديثا لا يخرج عن أسئلة بسيطة مثل: ” إسمك إيه ؟.. في سنة كام في المدرسة ؟”.

وكان الكبار يحذروننا منه دائما قائلين في تحذير لم نفهم معناه وقتها: “خدوا بالكم ده شيوعي “.. هذا كل ما عرفناه عنه وقتها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

مر عامين وفي يناير ١٩٧٧ سمعنا أنه قد ألقي القبض عليه في “انتفاضة الخبز ” ، (في قول أخر انتفاضة الحرامية)، مثل أي حدث تاريخي في بلادنا يحمل قولين ووجهين وجناحين متصارعين في الوصف والتوصيف والإقصاء أيضا.
بعدها بعامين ونيف رأيناه مجددا وإن كان قد طرأت تغيرات ملحوظة علي هيئته.. فقد بدت لحيته المميزة أكثر كثافة.. وبدأ يرتدي جلبابا أبيض قصيرا.. ولاح أكثر نحافة وشحوبا وفارقت لفافة التبغ المائلة شفتيه.. وإن كنا قد عرفنا بفضول وقوة ملاحظة الأطفال أنه ما زال يدخن من آثار الثقوب التي أحدثها التبغ علي ثوبه الأبيض.

و إستنتجنا أنه يفعل الأمر سرا ولم يعد يجاهر به بعد.. بدت علامة الصلاة علي جبينه، ورأيناه يتردد دائما علي المسجد.. ولم يفارق عادته في توزيع الحلوي علينا وسؤالنا أسئلته البسيطة التقليدية.. وعلا تحذير الكبار ثانية وإن كان هذه المرة ” خدوا بالكم ده جماعات “.
بعد اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ عاد للاختفاء ثانية وإن كنا سمعنا هذه المرة أنه هاجر لدولة من دول النفط ولم يعد منها سوي بعد 20 عاما.

عاد هذه المرة وقد اختلف مظهره كثيرا.. صار أكثر اهتماما بملابسه العادية ولم يعد يرتدي الجلباب الأبيض وعادت لفافة التبغ المائلة لا تفارق شفتيه.. أما لحيته الشهيرة فقد صارت في بياض الثلج وإن صار يهتم بأن يكون حليق الرأس.. وعاد يمارس عادته الآثيرة في توزيع الحلوي علي الأطفال وطرح أسئلته البسيطة عليهم.. نحن فقط الذين كنا قد كبرنا ولم نعد نتناول منه حلواه المحببة.

كان يأخذ دائما مقعدا بسيطا أمام البناية المجاورة ونلتف حوله يحذثنا عن التاريخ.. ورأيه في أيام عبد الناصر والسادات ومبارك بعض الشئ.

وتجرأت مرة وسألته عن سر التحول الدرامي في شخصيته واتجاهاته.. فأجابني بلطف قائلا: “لقد عشت أيام عبد الناصر والتحرر و الاشتراكية والقضاء علي الإستعمار.. ثم عشت أيام السادات والانفتاح والرأسمالية والحرب والسلام.. ثغير الفكر والتوجه والثقافة والعادات والفن والناس والمجتمع.. تغير حولي كل شئ فكيف لا تطلب مني أن أتغير؟”.. ثم قال في مرارة: “الخطأ الذي أعترف به أنني ملت لهذا التيار أو ذاك كلهم أصحاب مصالح يابني.. أحب وطنك ولا تنتمي لأي فكر أو تيار.. فتتحول حينها إلي أداة ومبرر لكل ما يفعله هذا الفكر أو ذلك التيار دون تفكير أو تأمل وتعقل.. العقل الناقد الحر هو الغرض من وجودك كإنسان.

مرت السنوات ولم اشاهده مجددا سوي أثناء ثورة “٢٥ يناير “.. عندما كنا نقف كلجان شعبية تحت بناياتنا.. عاد حينها شابا صغيرا وبدا أنه يقود معركة حقيقية ويوزع فيها القوات ويسد ثغرات الدفاع عن المنطقة.

وكان لا يمل عن الحديث عن الثورة الفرنسية واليعاقبة منتقلا فجأة إلى معارك الحرب العالمية الثانية وكيف قاد روميل جيوشه ونظريات الجنرال بوفر وغيره ونحن نستمع إليه متحلقين حول حلقة من النار نستدفئ بها من زمهرير الشتاء ونسأل ويجيب بلا ملل ولا توقف سوي حين يوزع علينا حلواه المعتادة.. ويلقى بعضا من قطع الحطب في ” راكية” النار كلما خفتت.

لم أكن أعرف حينها أنه يحارب معركته الأخيرة.. سمعت بعد أعوام قلائل من حارس البناية أنه توفي بعد صراع قصير مع المرض رافضا أن يذهب للعلاج.. كان متيقنا أنه ذاهب إلي مثواه الأخير.

أما كتبه ومتاعه فقد تخلص أقرباؤه منها عند بائع الأغراض القديمة.. وبقي مقعده المتهالك في موضعه فارغا.. أبكما عاجزا عن أن يروي قصة صاحبه..

.. قصص كثيرة في الحياة لم يتسني لها أن تروي.. ذهبت كالعدم في مدي الكون.. ضاعت في السديم.. كأغلفة الحلوى الرخيصة البراقة.. لم يبق منها فقط سوي بعضا من الذكرى.. من مذاق قديم.. على طرف اللسان.. ذاك الذي يتمتم بالرحمات خافتا على “عم محمود أبو دقن”.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى