محمد قدرى حلاوة يكتب: « توتو الكبير »

بيان

(١)

كان يقف بجسده الضخم على الطوار يراقبنا ونحن نلعب الكرة.. يرتدي بدلته الرمادية ويعلو صوته بين فينة وأخري ” شوط.. باصي.. خش عليه”.. يبدو عليه الحماسة الشديدة وهو يشاهدنا ويسفر وجهه المنتفخ عن الإنفعالات.. ” تيسير الجبالي ” جارنا الجديد الذي إنتقل ليقطن في البناية المجاورة.. كان يكبرنا بنحو خمسة عشر عاما.. قدم مع عائلته العريقة من حي ” الحسين” العتيق للسكني في حي” مدينة نصر ” .. حيث تجارة والده الرائجة وحوانيته المنتشرة لتجارة العطارة.

كنا نفاجئ به في المساء ونحن نلعب ” الأولى” و ” الأستغماية ” وقد أرتذي جلبابه العربي و ” شمر” ذيله وأخذ يتقافز معنا على ساق واحدة ويركل ” الطوبة” متنقلا بين المربعات وتتورد أوداجه ويهتز لغده ضاحكا عندما يفوز مصفقا بيديه فرحا.. قال عنه الكبار أنه شخص أرعن تافه.. ما الذي يجعله يقتحم عالم الصغار ويلهو معهم؟.. لم نكن نحن نراه كذلك بالطبع.. كان لطيفا ضاحكا دوما.. شديد الكرم تمتلئ جيوبه بقطع ” الحلوى “.. هل لهذا السبب تحديدا أحببناه.؟.. ربما.

بدأ يجلس معنا بإنتظام ويحرص على حضور مجلس مسامراتنا الليلية.. يأتي متأبطا ” كرسي” بحر كبير” يفرد” قوائمه الخشبية ويهبط بجسده المكتنز على قاعدته القماشية لتتحرك القوائم مبتعدة وكأنها تئن من وزنه الثقيل.. يحمل في يده ” كيسا بلاستيكيا” ممتلئا ” باللب” و ” السوداني” و أحيانا ” المكسرات” فى” رمضان”.. و راديو صغير.. نتكئ من حوله على بعض قطع الأحجار ليبدأ حديثا شائقا لا ينتهي.. هو المتحدث الوحيد.. ونحن المنصتون بصمت لا يقطع صمتنا سوي رجع الضحكات أو صوت ” خرفشات تقشير”. الفول السوداني و” طرقعات ” قزقزة ” اللب.

حكي لنا يوما عن عائلته الكبيرة في الصعيد.. العائلة التي تملك أطيانا شاسعة وأملاكا طائلة.. والده الذي نزح بالعائلة إلى القاهرة عام ١٩٥٤.. كان عمره سنتين فقط.. محلات العطارة الكثيرة التي افتتحها والده.. حي ” الحسين ” الذي كان يسكن به.. تنهد حزينا ” مفلحتش في التعليم.. أبويا طلعني من المدرسة وأنا في سنة خامسة إبتدائي.. ضربني قلم جامد على وشي – صمت لبرهة وتحسس وجهه بحركة لا إرادية – وقالي: أنا معنديش عيل يطلع خيبان.. من بكرة هتنزل معايا الشغل.. كنت ولد وحيد على ثلاث بنات.. من يوميها وأنا شغال مع أبويا في المحل.. مشفتش يوم راحة.. يالا الله يرحمه بقى”.

(٢)

كان مظهره.. ضخامة بدنه ورداؤه وحتى اسمه غير المألوف لنا يثير سخريتنا ويصبح مثارا للضحك في مجالسنا الخاصة.. لم ننفر منه وكذلك لم نألفه بالمطلق.. كما أن كثيرا من العلاقات تنشأ في لحظة وتتعمق.. فإن بعضا آخر منها يتولد رويدا رويدا.. تنمو مع الزمن والمواقف والأحداث.. بدأت أواصر الصداقة تنمو بيننا.. ضحك يوما قائلا لنا ” عارف إن شكلي غريب ولبسي كمان واسمي تقيل عليكوا.. إيه رأيكم تنادوني توتو”.. ومن يومها صار “توتو الكبير” صديقا حقيقيا لنا.

أمطرت السماء مطرا شديدا وأبرقت وأرعدت.. كنا نتواري خلف باب البناية نشاهد الماء وقد أحال الشارع بحيرة.. نزل ” توتو الكبير ” الدرج مرتديا الزي الرياضي صائحا ” إيه مش هنلعب كورة ولا إيه؟!”.. دهشنا لمظهره لأول وهلة.. للمرة الأولى نراه بزي جديد مختلف عن زي الصباح ” البدلة” و المساء ” الجلباب”.. واصل متحمسا ” يالا ده جو كورة.. زي أوروبا كده”.. كان يرتدي “تي شيرت” ” ماريو كيمبس ” هداف كأس العالم ١٩٧٨.. شجعنا حماسه.. وسرعان ما صارت مباراة حامية الوطيس.. وكان ما كان يومها.

كان ” توتو الكبير” يجري ويقفز ويركل الكرة بطريقة أثارت ضحكاتنا.. بدا أنه لم يلعب الكرة من قبل.. تذكرنا حديثه من قبل أنه كان أفضل لاعب في المدرسة وتغامزنا مبتسمين.. وفجأة سقط بلا حراك على وجهه مغشيا عليه.. تقافزنا نحوه وتعاونا معا في دفعه مستلقيا على ظهره.. وأخذنا نربت على وجهه ونمسح الدماء من على جبهته…رفعنا رأسه وناولناه كوبا من الماء المخلوط بالسكر فأفاق سريعا وأمسك برأسه متألما.. ابتسم لنا قائلا ” متخافوش دي نوبة سكر وهتعدي إن شاء الله”.

وانفضت المباراة سريعا وذهبنا إلى منازلنا متوترين يملؤنا القلق على “توتو الكبير”.. هل صار حقا صديقا لنا نحبه ونخشي عليه؟.

أتى في موعده ليلا وجلس في مكانه المعتاد معلقا الراديو في مسمار في الحائط.. بدا عليه الحزن والهم ونظر إلينا نظرة عميقة وقال: “أمي كل يوم تتخانق معايا.. بتقولي أنت بتضيع كل تعب وشقا أبوك.. شوية وهتلاقي نفسك على الحديدة.. عمري ما حبيت العطارة.. كرهتها وكرهت ريحتها.. سيبت حي الحسين كله عشانها.. مكنتش أقدر أكسر كلمة لأبويا.. كان شديد الله يرحمه.. على فكرة يا ولاد أنا هأتجوز.. فرحي الشهر الجاي”.. تصايحنا فرحا مهنئين له.. فضحك بملئ فيه وأهتز جسده وقال: “كلكم معزومين في فرح توتو الكبير “.. وفتح “كيسه البلاستيكي ” مناولا إيانا عبوات “السفن آب الكانز ” قائلا: “دي حلاوة الفرح.. لسه جايالي من بور سعيد.. مش خسارة فيكم “.. قلبناها بين أيدينا فرحين ونزعنا الغطاء المعدني وتجرعناها بمذاق فورتها اللاذعة.

(٣)

كان مولعا بالرئيس الراحل “السادات.. يغير عادته اليومية بتشغيل إذاعة “أم كلثوم ” ويصر على سماع خطب الرئيس.. قال لنا يوما: “السادات ده داهية.. حارب وانتصر.. وجاب بيجين هنا في مصر.. ده قعد كارتر على المصطبة في ميت أبو الكوم “..

لم نكن مؤهلين لتقييم الأحداث حينها.. وكنا نستمع إلى الخطب وأحاديث “توتو الكبير” عن مغامراته الفريدة أيام الصبا متهامسين ما بيننا ضاحكين.. يملؤنا اليقين أنه ينسج حكايات من وهم خياله.. يقطع حديثه فجأة مصوبا نظره نحونا قائلا: “إيه إنتوا بتضحكوا.. مش مصدقني”.

الخامس من سبتمبر عام ١٩٨١.. الخطاب المنتظر للرئيس “السادات”.. أتى” توتو الكبير” تلك المرة بتلفاز صغير متصل “بإريال” معدني طويل وضبط الصورة ورفع الصوت.. وبدا الكل منصتا واجما.. لاح التوتر والعصبية والضيق على ملامح الرئيس.. وترددت الألفاظ القاسية على لسانه حد السباب.. وتكررت التهديدات والوعيد.. لأول مرة ألمح” توتو الكبير ” حزينا.. كان يردد بين فقرة وأخري ” ليه كده ياريس.. ده كلنا بنحبك، “.. ظللنا واجمين و “أبانوب” صامتا شاردا.. لأول مرة لا يشاركنا الحديث.. بدا حينها أن حدثا جللا يحدث في البلاد.. الحرب.. النصر.. الهزيمة.. السلام.. كلها أشياء قابلة للتحول والتغيير.. أما نسيج الوطن فهو منطقة محرمة.. إن تمزقت خيوطه فلا كنا ولا كان الوطن..

لأول مرة ينشأ جدارا من الصمت بيننا وبين ” أبانوب”.. لم نشعر أبدا بالفارق بيننا.. لم نلمس التباين بين ” المسلم” و “المسيحي” سوي في حصة الدين عندما كان يغادرنا ” أبانوب” ذاهبا لأستاذ “ألبير” أمين المعمل لتلقي الدرس.. تشاركنا الأعياد والمناسبات.. تبادلنا ” الكعك” و ” الملانة”.. كنا نتحدث في كل شئ وأي شئ.

التوجس والخوف يملآن صدور الجميع الآن.. ماذا حدث؟.. وهل هذا هو العلاج المناسب؟.. وإلى أين يمضي بنا الوطن؟!.. كانت أسئلة حائرة تحلق في الهواء وتشيع جوا من التوتر والقلق.. منذ أحداث ” الخانكة” ١٩٧١ مرورا ” بالزاوية الحمراء ” ١٩٨١.. وحتى الحين.. يتكرر الخطر ويتواتر.. ويتجدد القلق والخوف.. صمتنا وصمت ” أبانوب” وأن ينشأ جدارا بيننا هو الخطر…هو النهاية.

أغتيل الرئيس الراحل ” السادات” فى السادس من أكتوبر عام ١٩٨١.. اضطر ” توتو الكبير” إلى، تأجيل فرحه الذي كان موعده” وقفة ” عيد الأضحى بعده بأيام معدودة.. كان ” أهله” فى ” أسيوط” يجدون صعوبة كبيرة في الحضور للقاهرة تَنتيجة الأحداث الدامية في المحافظة ٨ أكتوبر ١٩٨١ – حاول يومها تنظيم الجهاد الاستيلاء على مبنى مديرية أمن أسيوط ومبنى المحافظة ومرافق أخرى ودارت حينها اشتباكات دامية وسقط فيها العديد من الشهداء والجرحي – وكانت فرصة لـ” توتو الكبير” ليكفكف دموعه على الرئيس الراحل ويتهيأ للزواج.. وإن كان ظل أياما يردد “ليه كده ياريس.. ده كلنا كنا بنحبك”.

(٤)

فرح ” توتو الكبير” كان مشهودا.. أقيم في إحدى قاعات الفنادق الكبرى.. وكان ” توتو” يلوح لنا ببزته الأنيقة ويهمس في أذن العروس.. فهمنا من نظراتها الساخرة أنه كان يعرفّها أننا أصحابه.
مضت فقرات العرس.. ونهض ” توتو الكبير” يسلم علينا ويلتقط معنا بعض الصور التذكارية ويعرفنا على العروس التي لم تتبدل نظرتها المستنكرة نحونا.. قال لنا محاولا تلطيف الأجواء “كلتم يا ولاد.. البوفيه عجبكم.. ناقصكم أي حاجة؟”.. ثم إلتفت نحو عروسه مخاطبا إياها ” لما تعرفيهم هتلاقيهم جدعان قوي “.

في اليوم التالي فاجئنا “توتو الكبير” وهو يتقدم نحونا حاملا حمله المعتاد – المقعد والكيس البلاستيكي والراديو – و ” فرد” مقعده بهدوء وأدار الراديو وصاح مبتسما: ” ها.. عاملين إيه يا ولاد.. الفرح عجبكم؟”.

بدأ ” توتو الكبير ” ينفق المال يمنة ويسرة.. سمعنا صوت بوق سيارة زاعق يصر على المرور من الطريق.. أفسحنا له المجال وتوقفنا عن لعب الكرة.. إلا أن السيارة توقفت في المنتصف وفتح صاحبها النافذة وترددت أنغام الأغاني الأجنبية لفرقة البوني إم.. وتفاجئنا عندما هبط صاحبها منها مرتديا بنطالا وقميصا من ” الجينز” ونظارة شمسية عريضة.. لم يكن سوي ” توتو الكبير” الذي صاح ضاحكا “مش تباركولي على الخنزيرة”.. وفتح أبواب السيارة داعيا إيانا للركوب والذهاب في جولة “لمصر الجديدة” – حلاوة السيارة الجديدة – وتناول الغذاء من ” شيش كباب عادل” ، ولم نمانع وإنفضت المباراة دون أن تنتهي ” الفورة”.. ولاك” توتو الكبير” يومها عددا من السندوتشات صار مثارا للتندر وضحكات الليل الصافية.

مضت الأيام وسمعنا يوما بعد يوم عن تجارة” توتو ” الخاسرة.. والمحلات التي تباع يوما بعد الآخر.. وزادت الخلافات مع والدته وإخوته.. لم يستمر زواجه طويلا.. سرعان ما تم الإنفصال.. قدم نحونا وجلس وقال غاضبا: ” أهي راحت لحالها.. كانت ست طماعة.. وأمي مش عارف عايزة إيه؟.. ما الأطيان عندنا زي الرز”.. ثم استطرد قائلا: ” أنا خلاص خدت قرار أسافر بره.. هأروح أوروبا.. هأدرس الفن”.. فتحنا أفواهنا من الدهشة.. هو لم يحصل على الشهادة الإبتدائية ولا نعلم له ميولا فنية من قبل.. وقبل أن نتحدث باغتنا قائلا مبتسما وهو يفتح” كيسه البلاستيكي ” – والذي بدا أضخم تلك المرة وهو يخرج العاب الشطرنج والطاولة والسلم والثعبان والليدو – ” يالا بقى علموني “.. وكان يرج أحجار النرد في قبضته.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى