دكتور هاني الجمل يكتب: فوضى الفتاوى.. الأسباب والعلاج
بيان
من يوقف فوضى الفتاوي في مصر؟ ومن هي الجهة المناط بها الإفتاء أصلاً؟ وكيف نصوب مؤشر وسائل التواصل الاجتماعي، في تناولها لهذه القضية التي تلقي بظلالها على المجتمع؟
فالمتتبع لوسائل التواصل الاجتماعي، يفاجئ بإطلالات لوجوه كثيرة، أزعم أنها ليس لها علاقة بالفتوى، ولم تدرس العلوم التي تؤهلها لامتلاك ناصية هذا المجال، والولوج أو الغوص في أعماقه دون حسيب او رقيب. فالخطورة هنا أن ما تفتي به تلك الشخصيات، يلقى رواجاً لدى البعض، ومعارضة لدى آخرين، الأمر الذي يثير الفتن ويعمل على انقسام المجتمع.
ومن هنا تأتي أهمية اعلان فضيلة الدكتور نظير عيَّاد مفتي الجمهورية، عن تنظيم دار الإفتاء ندوة دولية تحت عنوان: “الفتوى وتحقيق الأمن الفكري”، في منتصف الشهر الجاري لمناقشة دور الفتوى في إرساء دعائم الأمن الفكري ومواجهة التحديات المعاصرة.
ولقد أحسن فضيلته صنعاً حينما أكّد أنه يوجد تعاون وتنسيق بين الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف المصرية، لوضع إجراءات ودراسة فكرة مقترح قانون لتجريم الفتوى من غير المختصين، واجراء دراسة مشتركة لكيفية مواجهة فوضى الفتاوى، وتنظيم من له حق القيام بهذه المهمة، من خلال تعاون جاد بين المؤسسات الدينية وتحت مظلة الأزهر الشريف.
ويكفي أن نعلم أن دار الإفتاء أصدرت مليوناً ونصف المليون فتوى عام 2022، وهو أعلى عدد من الفتاوى منذ نشأتها عام 1895، تعلَّق 63% منها بمسائل المجتمع والأسرة، في حين توزعت النسبة الباقية بين فتاوى التطرف، والعبادات والمعاملات والآداب والأخلاق وغيرها، الأمر الذي يؤكد أهميتها، وثقة جموع الشعب المصري في توجهاتها.
ورغم هذه الأهمية، فإن هذا الإحصاء الرسمي الصادر من دار الإفتاء المصرية جاء متناقضًا مع نتائج استطلاع رأي أجرته الدار نفسها في وقت سابق، حيث خيَّرت الدار المصريين بين مُحرِّك البحث ” غوغل” وموقع دار الإفتاء بوصفه جهة أولى للحصول على الفتاوى الدينية، وجاءت النتيجة لصالح الأول بنحو 70% من المشاركين.
ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر القادم الذي ستنظمه دار الإفتاء المصرية، كي يعيد لها مكانتها التي تستحقها، لتمضي حاملة رسالتها النبيلة في بناء الوعي، وتصحيح المفاهيم المغلوطة وتحقيق الأهداف التي تخدم الوطن والمجتمع.
ومع كل الآمال الطيبة المعلقة على هذا المؤتمر، فإن رسالة دار الإفتاء التي أنشئت عام 1895، كجزء من إستراتيجية الدولة الحديثة للسيطرة على المجال العام وضبطه في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الشأن الديني، ما زالت محل جدل ونقاش بين رسالتها الدينية ومواقفها السياسية منذ أيام محمد على مؤسس مصر الحديثة، وحتى عهد قريب.
فصفحات التاريخ تؤكد أن دار الإفتاء تعرضت على مدار مسيرتها لضغوط سياسية كثيرة لتكون بوقاً للسلطة، بل تم استخدامها في بعض العصور لتكون أداة سياسية لشرعنه سياسات النظام، فأصحاب هذه الرؤية يرون أن وظيفة دار الإفتاء لم تعد – في بعض العصور – إفتاء الناس في شؤون دينهم ودنياهم فقط، وهي الوظيفة التي طالما اضطلع بها المُفتون منذ قرون، بل باتت وظيفتها أيضاً إصدار فتاوى تؤيد سياسات الحكومة، حتى لو كانت فتاوى مثيرة للجدل.
فعلى سبيل المثال كان محمد علي – كما ذهبت الدكتورة فاطمة حافظ في كتابها “الفتوى والحداثة” – في حاجة إلى سند شرعي قوي لتنفيذ بعض قراراته، حيث وجد بُغيته في أحد العلماء الجزائريين المقيمين في مصر آنذاك، وهو الشيخ محمد بن محمود الجزائري، الذي ُبرِّر استعانة محمد علي بالكولونيل الفرنسي “جوزيف سيف” المعروف بسليمان باشا ليقوم بمهام تحديث الجيش المصري.
ورغم الضغوط التي تعرضت لها دار الإفتاء على مدار تاريخها الطويل، إلّا أن الأمل مازال قائماً، كي تستعيد مكانتها وتمضي في تحقيق رسالتها، كما أكّد ذلك فضيلة المفتي في تصريحه، الذي أشار بوضوح إلى أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى جعل المعلومات، بما في ذلك الفتاوى، متاحة للجميع، مع افتقار الكثيرين إلى التأهيل الشرعي والعلمي مما أدى إلى تشويه المفاهيم وتضارب الآراء.
فالمشكلة الجوهرية هنا تكمن في فوضى الفتاوى، وغياب المرجعية العلمية الواضحة، مما أفسح المجال لغير المتخصصين للحديث في أمور الدين، مع غياب الوعي، واستغلال الإعلام للقضايا الدينية لإثارة الجدل، أو لتحقيق مكاسب شخصية.
ولا بد هنا من التوضيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أداة محايدة، ولكن سهولة النشر والانتشار من خلالها، تجعلها سلاحًا ذو حدين، فهي تُستخدم لنشر العلم الصحيح لكنها تُستغل أيضاً لنشر المغالطات.
خلاصة القول.. تفعيل دور المؤسسات الدينية الرسمية، كالأزهر ودار الإفتاء في إصدار الفتاوى بطريقة ميسرة للجمهور عبر منصات إلكترونية، وتقنين الفتاوى عبر وسائل التواصل، مع دعم وتشجيع دراسة العلم الشرعي من مصادره الصحيحة، ونشر الفكر الوسطي المعتدل من خلال العلماء المؤهلين، ومواكبة العصر تقنيًا، أصبحت اليوم ضرورة ملحة، يتطلب تحقيقها تكامل الجهود بين المؤسسات الرسمية، لتصحيح المسار وتوفير بيئة رقمية آمنة تخدم الدين والمجتمع، والله من وراء القصد.