محمد قدرى حلاوة يكتب: البركة
بيان
وسط الزروع الخضراء، تشرق الشمس مبتهجة، وتسري نسمات الهواء المنعشة. خرير المياه المتدفقة من السواقي يمتزج مع أصوات البشر وصيحات السائمة، وصوت جهاز تسجيل صادر عن مقهًى بلدي عتيق يصدح بأهازيج المديح ورواة السير على وقع شجن الربابة وبكاء الناي. محل بقالة صغير وقف أمامه صاحبه يرش الماء ليلطف حرارة القيظ المستعد للهجوم. أحد الفلاحين يمتطي حماره، مصدراً صوتاً مميزاً من فمه يستحث الحمار على المضي بسرعة، وقد أخذت ساقاه تهتزان وهو يقبض على اللجام.
للصباح في الريف طبيعة خاصة، بكارة وطزاجة مدهشة. مضى “عم إمام” في طريقه بخطواته الوئيدة، يهز مبخرته بيده ويلقي على الفحم المشتعل بعضاً من البخور العطري ليتصاعد في الهواء خيوطاً متصاعدة ملتفة، ناثرة في الأجواء عبق الرائحة الذكية. يظل يتمتم بكلمات وأوراد بصوت أجش عريض، وأصحاب الحوانيت يجودون عليه بما طابت به أنفسهم لينالوا “البركة”: قطعة من الجبن، أرغفة من الخبز الفلاحي، بيضة. يجمع كل ذلك في هدوء، مقبلاً يديه ومقلبها حمداً وشكراً، واضعاً إياها في “كيس” قماشي كبير يحمله على كتفه.
الملابس الغريبة “لعم إمام” وذقنه الطويلة وشعر رأسه المهوش الذي يظهر من تحت “عمامته” الخضراء أثارت رهبة الأطفال وفضولهم ومشاغباتهم الصغيرة أيضاً. كانوا يلتفون حوله ويغنون مصفقين بأيديهم: “العبيط أهو… العبيط أهو…” وكانت التفاتة بسيطة من “عم إمام” كفيلة بجعلهم يهرعون فارين.
منزل بسيط متواضع في أطراف القرية، مبني من الطوب النيء وسقف من الجريد، ذلك كان مسكنه. يوصد بابه ليلاً ولا يخرج منه لأي سبب كان. يسكن فيه وحيداً بلا أهل، لذلك استغرب المارة من الأصوات المتناثرة المنبعثة منه. قال بعضهم إنهم سمعوا صوتاً عذباً وموسيقى شجية تصدر منه قبيل الفجر: أصوات ضحكات وأبيات من شعر الغزل، وأحياناً رجع أدعية متضرعة وبكاء منتحب تتردد من خلف الجدران الطينية. لم يجدوا تفسيراً للأمر أبداً. يقول الرواة إنه “يخاوي” “جنية” أغوته منذ كان صبياً وذهبت بكيانه وعقله.
كان الكبار يخشونه، ورددوا في أحاديث السمر أنه رجل “مبروك” ذو كرامات. وتداولوا بينهم نبوءات قالها وتحققت. وتذكروا ضراً أصاب عمدة القرية الذي خر صريعاً فجأة وهو يتناول طعامه دون مقدمات مرض أو سقم. صار ذوو السعة يدعونه لمنازلهم في مناسباتهم وحين يمرضون وفي احتفالات “الطهور”، ويجزلون له العطاء مقابل بضعة أدعية يتمتم بها وخيوط دخان تتصاعد من مبخرته. الإنسان دوماً يبحث عن يقين وعن حقيقة الوجود وحكمته، ويخشى الغد والعاقبة. يستعين عليها “بالبركة” وإجزال العطاء لأهلها. يحاول دفع يد القدر وتخطي عثراته، يبحث عن إجابة لأسئلته الحائرة الغامضة بالخوض في المزيد من الغوامض: تمتمات “عم إمام”، “المكشوف عنه الحجاب”، ودخان بخوره وكراماته.
في أحد مشروعات التعمير وإنشاء الطرق، كان منزل “عم إمام” واقعاً في منتصف مسار الجسر المراد إنشاؤه. كان المطلوب إخلاؤه وهدمه بصفة عاجلة. لم يجرؤ أحد من العمال على دق معول واحد في جدرانه. تصدى لهم الفلاحون ببسالة. أتت قوة من المركز وأجبروا “عم إمام” على الرحيل وقوضوا المنزل. جلس حزينا على قارعة الطريق بجوار أغراضه المهلهلة الرثة، يتمتم ممسكاً بمسبحته. أمطرت السماء بشدة حينها وأرعدت. أحس الناس بالخوف والرعب من تلك السيول الدافقة. غرقت بيوت كثيرة ومحاصيل، ونفقت بعض السائمة. إنها اللعنة التي حلت عليهم منذ هدم منزل “عم إمام”.
شاع الحديث بينهم، ومضوا يتساءلون عن العاقبة: “ألم تروا عاقبة ما حدث؟ ألم تخبروا كيف صار المصير؟” بضعة أسابيع مرت بعدها عادت فيها مساكن القرية وحقولها إلى سيرتها الأولى. تكفلوا ببناء حجرة “لعم إمام” في قطعة أرض خالية. وعندما عاد لجولاته ونثر عبق بخوره، فاض العطاء أكثر مما كان سابقاً. وامتلأ “كيس عم إمام” بالخير الوفير. كانوا يريدون “مزيداً من البركة” والنفحات الروحية. لم يدخل مسكنه الجديد أبداً. اكتست ملامح “عم إمام” بالحزن. سرى بين الناس همساً أن “الجنية” قد فارقته، وزاد بعضهم القول إنه دأب على انتظارها هناك عند قاعدة الجسر الجديد حيث يجلس “عم إمام” ليلاً ويفترش الأرض متدثراً بغطائه في موضع مسكنه القديم. لم تعد أصوات الموسيقى والغناء والضحك ورجع الشعر والضراعة تصدح بعد الآن.
كثر الخير وانهمرت عليه العطايا، إلا أن القوم لمحوا فيه هزالاً ملحوظاً ونأياً وتعففاً عن الطعام. تأتي الأشياء دائماً طائعة مذللة بعد أن نفقد الرغبة فيها. توجس الناس خوفاً: هل تلك مؤشرات ومقدمات لعنة أخرى تحل عليهم؟ غضب “عم إمام” وسخطه صارا في قداسة المحرمات ينبغي تجنبهما. استيقظوا فجأة ذات صباح ولم يجدوه في مكانه المعتاد. واستمر الغياب أياماً وأسابيع وشهوراً. قال البعض إنه هاجر القرية إلى قرية أخرى في أرض الله الواسعة. وجزم آخرون أن “الجنية” قد ذهبت به إلى عالمها وحلقت معه بعيداً عن عالم البشر. شعروا جميعاً بالارتياح: لا خوف من غضبه وسخطه بعد الآن، لا توجس من لعنات. إلا أنهم ظلوا مفتقدين لرائحة البخور وتمتمات الأوراد، متحسرين على ضياع زمان الكرامات و”البركة”. هل كان ضرورياً بناء ذلك الجسر؟