القس بولا فؤاد رياض يكتب: الأنبا أنطونيوس اب الرهبان

بيان

تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في يوم 30 يناير، الموافق 22 من شهر طوبة، بذكرى نياحة القديس العظيم الأنبا أنطونيوس، كوكب البرية وأب جميع الرهبان. وُلد هذا القديس سنة 251 ميلادية في بلدة قمن العروس (قرية بمركز الواسطى، محافظة بني سويف) من أبوين غنيين محبين للفقراء، فربّياه في مخافة الله. وعندما مات والده، وقف أمام جثمانه متأملًا في زوال العالم، واشتعل قلبه بمحبة الأبدية، وقال: “أين همتك وعزيمتك العظيمة وجمعك للمال؟! إني أرى الجميع قد بطل وتركته! إن كنت قد خرجتَ أنت بغير اختيارك، فلا أعجبنّ من ذلك، بل أعجب أنا من نفسي إن عملتُ كعملك!”

كان يتأمل في أعمال الآباء الرسل وكيف تركوا كل شيء وتبعوا السيد المسيح (مرقس 10: 28)، وكيف كان المؤمنون يبيعون أملاكهم ويضعون أثمانها عند أقدام الرسل لتوزيعها على المحتاجين (أعمال 4: 34-37). وفي أحد الأيام، دخل الكنيسة كعادته، فسمع الإنجيل يُتلى: “إن أردتَ أن تكون كاملًا، فاذهب وبِعْ كل مالك وأعطِهِ للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَ اتبعني” (متى 19: 21). تأثرت روحه بهذه الكلمات، فمضى وباع كل ما يملك، وأبقى لأخته نصيبها وأودعها في بيت للعذارى، ثم وزّع نصيبه على الفقراء والكنائس.

خرج من قريته وسكن في كوخ صغير بجوار النيل، وكان يتردد على النساك المجاورين، يتعلم منهم الفضائل التي اشتهروا بها. وبعد مدة، عبر النيل وسكن في مقبرة فرعونية قديمة بجوار شجرة جميز على الشاطئ الشرقي للنيل. سُمّي هذا المكان فيما بعد “دير الجميزة”، وهو الآن “دير الميمون”. هناك، تعرّض لحروب شيطانية شديدة، حتى ضربه الشياطين ضربًا مبرحًا أفقده النطق، فحمله أصدقاؤه إلى الكنيسة حتى تماثل للشفاء، ثم عاد إلى مكان عبادته.

توغل بعد ذلك في الصحراء الشرقية حتى وجد عين ماء، فسكن بجوارها في مغارة، وداوم على الصوم والصلاة، مجاهدًا ضد حروب الشياطين، وكان الله يعينه حتى ينتصر عليها. استمر على هذا الحال عشرين سنة، فاجتمع حوله كثيرون ليتتلمذوا على يديه، وآخرون طلبوا الشفاء من أمراضهم. خرج إليهم القديس، فاستفادوا من إرشاداته، وصنع الله على يديه آيات شفاء كثيرة. تتلمذ له كثيرون وسكنوا في مغارات متفرقة حوله، فصار أبًا ومرشدًا لهم، وبذلك أسس أول نظام رهباني في العالم، فاستحق بحق أن يُدعى “أبو الرهبان”.

في أواخر أيامه، كان للأنبا أنطونيوس تلاميذ كثيرون في مناطق مختلفة من مصر، مثل الإسقيط ونتريا وجبل النقلون بالفيوم. وكان يفتقدهم بنفسه أو يرسل إليهم رسائل، وقد بقي لنا من رسائله عشرون رسالة. وعندما أكمل جهاده الصالح، جمع أولاده ووصاهم بالثبات في الجهاد الرهباني، كما أوصاهم بأن يُعطوا عصاه للقديس مكاريوس، والفروة للقديس أثناسيوس الرسولي، وثوب الجلد للقديس سرابيون تلميذه، وأوصاهم بإخفاء جسده بعد نياحته. ثم رقد على الأرض، وفاضت روحه الطاهرة إلى الله الذي أحبه، وهو بشيخوخة صالحة، إذ كان عمره عند نياحته 105 سنوات.
هناك دروس كثيرة يمكن استخلاصها من حياة القديس الأنبا أنطونيوس:
1. القداسة لا ترتبط بالمكان: فالإنسان يمكنه أن يكون قديسًا سواء عاش في مدينة أو قرية أو حتى وسط الشر، مثلما كان لوط قديسًا في سدوم وعمورة، وكان نوح بارًا وسط جيل شرير.
2. أهمية المواظبة على حضور الكنيسة: كان الأنبا أنطونيوس مواظبًا على الحضور إلى الكنيسة، وكان هذا سبب امتلائه الروحي وتأثره بكلمة الله.
3. فهم قراءات الكنيسة يقود إلى التغيير: سمع القديس الإنجيل في الكنيسة فتأثر به بشدة، فطبق الوصية الإلهية عمليًا وترك كل شيء ليعيش للرب.
4. الإرادة القوية في تنفيذ وصية الله: امتلك الأنبا أنطونيوس ثروة كبيرة ومسؤولية نحو أخته، لكن لم تمنعه هذه الأمور عن طاعة الله، بل نفّذ الوصية بكل قوة.
5. ترك الكل من أجل الله: أدرك أن الله وحده هو الكنز الحقيقي، فترك ممتلكاته وكل ملذات العالم ليتفرغ للعبادة والارتباط بالله وحده.
6. المثابرة في الجهاد الروحي رغم الحروب: واجه حروبًا شيطانية شديدة، لكنه لم ييأس، بل استمر في الصلاة والصوم والجهاد حتى انتصر على كل التجارب.
7. الانتصار على الشياطين بالاتضاع: عندما حاولت الشياطين إخافته، هزمها باتضاعه قائلًا: “أنا أضعف من أن أقاتل أصغركم!”، مما جعلهم يهربون منه.
8. الصلاة من أجل الجميع: كان يصلي من أجل الكنيسة، والبطريرك، والوطن، وتلاميذه، مما يوضح أهمية الصلاة ودورها في حياة المؤمن.
صلواته وشفاعته تكون معنا جميعًا.

…………………………………………………………………………………

كاتب المقال: القس بولا فؤاد رياض، كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى