طارق صلاح الدين يحكى: “منويات” الفلسطينيين التى اخترقت سجون إسرائيل فى أكبر رسالة تحدٍ للسجان
المشهد كان فى غاية الإنسانية، والحكاية لم يألفهها المواطن العربي، لذلك سوف أقدمها لكم فى السطور التالية، بكل تفاصيلها المدهشة.
الظروف التى أنتجت الحكاية.. وصاحب الفكرة
لأول مرة في التاريخ البشري بأسره، تتم عمليات إنجاب الأطفال بطريقة بالغة التعقيد، فرضتها ظروف الأسر وأحكام السجن العالية التي تصل في بعض الأحيان إلى المؤبد.
وظهرت فكرة تهريب الحيوانات المنوية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية عام 2004، واقترحها عباس السيد (أبو عبدالله)، قائد كتائب القسام في الضفة الغربية حتى اعتقاله، وتصنفه إسرائيل على أنه أخطر أسير فلسطيني لديها، بعد قيامه بعملية عيد الفصح التي تعتبر أضخم عملية نوعية تفجيرية في تاريخ إسرائيل.
واقترح عباس السيد على نزلاء سجن شطا تهريب منوياتهم ليتم تلقيح زوجاتهم بها صناعيًا تحت إشراف طبي دقيق، وينتج عن ذلك أطفال للأسرى يحققون حلم الزوجات في الأمومة، وينتظرون آباءهم لحظة الإفراج عنهم.
ورغم أن القوانين الإسرائيلية الخاصة بإدارة المعتقلات والسجون تسمح فى بعض فقراتها للنزلاء بالاختلاء بزوجاتهم وفق شروط معينة، إلا أن أصحاب الأحكام المؤبدة من الأسرى الأمنيين يُحظر عليهم ذلك الأمر.
ولم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، فالفكرة تصطدم بعدة معوقات دينية واجتماعية، ولابد من توفير ظروف خاصة جدًا لإكمالها بشكل صحيح.
حكم الشرع
وتم عرض الأمر دينيًا على العلماء المسلمين، ومنهم الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، فوافقوا بشرط توفير عدة إجراءات تضمن تنفيذ الفكرة في إطار الشريعة الإسلامية التي تضمن حفظ الأنساب.
وكذلك وافقت أعلى المستويات السياسية داخل منظمة التحرير الفلسطينية وحماس وكافة الفصائل الفلسطينية على الفكرة، بذات الشروط التي طلبها علماء الإسلام، لتمكين الأسرى من تكوين أسرهم رغم بعدهم عن زوجاتهم، وللقفز فوق محدودية فرص الزوجات في الإنجاب نظرًا لارتباطها بعنصر السن.
وتقبل المجتمع الفلسطيني المحافظ فكرة حمل الزوجة ووضعها مولودا، بينما يقبع زوجها خلف قضبان السجن، ولا يشهد لحظة حمل الجنين ولا يتابع مطلقًا مراحل الحمل والولادة.
ومرت الفتوى الشرعية بمرحلتين فارقتين، حيث تمت الموافقة في البداية على حمل الزوجات اللواتي تم الدخول بهن قبل السجن، ثم في المرحلة الثانية تمت الموافقة على حمل الزوجات اللواتي لم يدخل بهن الأزواج لظروف الاعتقال بعد عقد القران وقبل إتمام الزفاف.
الشروط
وشملت شروط عملية تلقيح منويات الأسرى داخل أرحام الزوجات النقاط التالية:
- وثيقة عقد القران بين الزوجين.
- موافقة الزوج والزوجة على عملية التلقيح.
- أن يتم التأكد المطلق من كون الحيوان المنوي خاصًا بالزوج، وكون البويضة الأنثوية خاصة بالزوجة.
- إجراء العملية في مركز طبي معروف ومرخص لإجراء هذا النوع من العمليات.
- حضور شاهدين، أحدهما من طرف الزوج والآخر من طرف الزوجة خارج السجن، يشهدان على خروج الحيوانات المنوية من السجن، وأنها تخص الأسير، بخلاف وجود أربعة شهود في المعتقل، موثوق بهم وبأمانتهم في قول الحق مع كتمان الأمر.
- حضور أحد المحامين ذوي الثقة للتوثيق.
- اشتراطًا لبراءة الذمة ودفع الشبهات، يتم إشهار عملية التلقيح عبر كل الوسائل المتاحة، إما بقيام والد الأسير ووالد الزوجة بإعلان الأمر للناس بعد صلاة العشاء في المسجد، أو المناداة عبر مكبرات الصوت في المساجد، أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أو غيرها من الوسائل.
التفاصيل
بعد ذلك، يبدأ الأسير في تحضير نفسه، ويكون هناك اثنان على الأقل من الشهود خارج الحمام، ومثلهما في السجن، ثم يتم التسليم عند الزيارة الوجاهية التي يسمح فيها للسجين بلقاء أسرته مباشرة دون أسلاك.
ثم تأتي المرحلة الثانية، وهي مرحلة التسليم خارج السجن للشهود من طرف الزوج والزوجة، الذين يكونون في الانتظار خارج السجن، وفي الغالب يكون والد الأسير أو شقيقه، ثم يتم نقلها إلى المركز الطبي، حيث تتم عملية المعالجة والتجميد والحفظ حتى تتهيأ زوجة الأسير لعملية الزراعة.
طرق التهريب.. والعملية الأولى
وتتنوع طرق تهريب الحيوانات المنوية بين أكياس الحلوى والشيبسي الموجودة في كانتين السجون الإسرائيلية، أو كيس نايلون، أو عبوة دواء، أو نواة تمر مفرغة، أو غيرها من الوسائل المجهولة حتى هذه اللحظة، للتمويه على أجهزة السجون الإسرائيلية.
وشهد عام 2012 أول نجاح لتهريب الحيوانات المنوية، وكان من نصيب الأسير عمار الزبن من الضفة الغربية، والذي أنجبت زوجته مولودها مهند.
وتوالت بعد ذلك عمليات التهريب ونجاح الأسرى في إنجاب الأولاد وهم داخل جدران السجون.
وأحدث ثمرة لهذه العمليات الناجحة كان التوأم معتز وسوار، أبنا الأسير أحمد السكني من قطاع غزة، والذي اعتُقل منذ 13 عامًا، وترك زوجته وطفله طارق البالغ من العمر 12 عامًا، والذي توفي في حادث سير بعد عودته من رحلة ترفيهية لأبناء الأسرى، فأقدم الأسير السكني وزوجته شيرين على تجربة زرع الحيوانات المنوية المهربة، والتي أسفرت عن التوأم معتز وسوار.
أول طفل
أما أول طفل يولد في قطاع غزة من المنويات المهربة، فهو حسن الزعانين، ابن الأسير تامر الزعانين، الذي تم أسره عام 2003 بعد زواجه من هناء الزعانين بشهرين فقط، وحكم عليه بالسجن لمدة 12 عامًا، ونجحت عملية التهريب والزراعة بمركز الابتسامة للإنجاب، ورُزقا بحسن عام 2014.
وبعد مرور سنة وخمسة أشهر، أعادت هناء الزعانين التجربة مرة أخرى، ولكن كان الفشل حاضرًا هذه المرة، وبرغم حزنها، إلا أنها مصرة على تكرار التجربة عدة مرات حتى تنجح.
أشجع الزوجات
وتُعتبر أشجع الزوجات ليديا، زوجة الأسير عبدالكريم الريماوي، الذي اعتُقل عام 2001 وحكم عليه بالمؤبد (25 سنة)، حيث حصلت على منويات زوجها بنفسها أثناء زيارته في السجن ببئر السبع، وحملتها إلى المركز الطبي بنابلس، لعدة ساعات سيطر عليها فيها شبح الفشل والتلف بالطريق.
وشهد أشقاء زوجها وأشقاؤها عملية التسليم، بالإضافة إلى اثنين من أهالي الأسرى الذين رافقوها أثناء الزيارة، وبعد عملية الزراعة أعلن إمام المسجد الخبر لجميع الأهالي، ونتج عن العملية ميلاد الطفل مجد.
وشهدت هذه التجربة اقتحام شاشة السينما مرتين، حيث لاقى فيلم “مجد” ترحيبًا، بينما تعرض فيلم “أميرة” لنقد شديد، واعتُبر طعنة في القلب الفلسطيني، ما دفع الهيئة الملكية الأردنية لسحبه من تمثيل الأردن في جوائز الأوسكار احترامًا لمشاعر الأسرى الفلسطينيين.
وفي النهاية، فإن أطفال الحيوانات المنوية العابرة للسجون الإسرائيلية يجسدون أكبر رسالة تحدٍ للسجن والسجان الإسرائيلي.
ورسالة يحملها سفراء الحياة والأمل من الأطفال الذين يولدون بعيدًا عن أحضان الآباء، ويظل الحلم بهذه الأحضان ماثلًا في الأذهان حتى يتحقق حلم اللقاء.