القس بولا فؤاد رياض يكتب: يونان النبي الهارب

بيان
يونان كلمة تعني حمامة، والحمامة تتصف بالسلام والوداعة والخضوع، لكن يونان كان مضطربًا ومنزعجًا من رسالة الرب له. نتذكر هنا حمامة نوح التي أرسلها فأطاعته، ثم أرسلها مرة أخرى فعادت بغصن الزيتون، أي أنها أتت بالسلام والبشارة المفرحة. حمامة نوح سمعت وأطاعت، أما يونان فرفض وتمرد، لكنه في المرة الثانية أطاع فعاد بتوبة أهل نينوى.
السبب الوحيد لهروب يونان هو ذاته، فقد تمسك بكرامته وكبريائه، ووجد سفينة ليهرب من الله، بينما استخدم السيد المسيح السفينة ليعظ منها.
قُمِ اذْهَبْ (يون 1: 1)
كان ينبغي على يونان طاعة الرب، فهل نحن نطيع الله عندما يقول لنا: “قم”؟ نعم، قم من الخطية، من العبودية، من الكسل، من الحزن، من سقطاتك، وقم لخدمة الله. هنا نتذكر قول السيد المسيح للمفلوج: “قم احمل سريرك وامشِ” (يو 5)، وأيضًا عندما أقام ابن أرملة نايين قائلاً: “أيها الشاب، لك أقول قم” (لو 7). إنه يأمرنا بالقيام من حالتنا الرديئة إلى حالة القداسة والفرح والسلام.
وَنَادِ عَلَيْهَا (يون 1: 1)
الله طلب من يونان أن ينادي على أهل نينوى، وأمره أن يتكلم، لكن المتكلم الحقيقي هو الله، فموسى قال: “أنا ثقيل الفم واللسان”، وأرميا قال: “أنا ولد لا أعرف أن أتكلم”، لكن الله هو الذي يتكلم من خلال خدامه. فليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله هو الذي ينمي. الله ينادي علينا بطرق كثيرة، برسالة، بعظة، بتجربة، بمرض، وبكل وسيلة ممكنة، لذلك علينا أن نكون مستعدين لسماع صوته وألا نقسي قلوبنا.
قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي (يون 1: 1)
عندما قال الله إن شر أهل نينوى قد صعد أمامه، كان ذلك بسبب خطاياهم العظيمة، ولكن هل ننسى أنفسنا؟ نحن أيضًا نخطئ إلى الله، وربما يكون شرنا أعظم منهم. قال الله عن أهل نينوى: “إنهم لا يعرفون يمينهم من شمالهم”، أي أنهم أخطأوا عن جهل، أما نحن فكم من مرة نخطئ عن معرفة وإدراك؟ ونتذكر هنا شر العالم أيام نوح، وسدوم وعمورة، وجرم قايين عندما قتل أخاه هابيل. السيد المسيح حذر المخلع قائلاً: “ها أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر” (يو 5).
فَنَزَلَ إِلَى يَافَا (يون 1: 3)
عندما نكون مع الله ونسمع كلماته نرتفع، لكن عندما نهرب منه ننحدر إلى أسفل، كما حدث مع يونان الذي نزل ثلاث مرات:
نَزَلَ إِلَى يَافَا، (يون 1: 3)
وَوَجَدَ سَفِينَةً وَنَزَلَ فِيهَا، (يون 1: 3)
ثم نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ، (يون 1: 5)
الله أمر يونان بالذهاب إلى نينوى لكنه هرب إلى ترشيش، فنينوى تعني النسل المقدس، أما ترشيش فتعني القاسية، والله يريدنا أن نذهب إلى الأماكن المقدسة المباركة، لكن أحيانًا نختار بأنفسنا الذهاب إلى الأماكن القاسية المتعبة. ليتنا نسمع صوت الله لتتقدس حياتنا وأفكارنا وحواسنا، ولا نكون مثل يونان الذي هرب من وجه الله.
الدروس المستفادة من قصة يونان:
١) اعداد الله حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان:
الله أعد حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان، فكل ما يحدث في حياتنا ليس صدفة، بل بتدبير إلهي، فهو الذي أعد الرياح الشديدة، وأعد الحوت، وأعد اليقطينة، وأعد الدودة، وهو الذي يدبر حياتنا بكل تفاصيلها. علينا أن نثق أن كل ما يحدث لنا هو بسماح من الله، فقد يسمح برياح شديدة أو بحوت عظيم، لكنه أيضًا يهيئ يقطينة تفرح القلب، وحتى إن أرسل دودة تقلقنا، فهو لا يتركنا أبدًا، بل يحفظنا ويعزينا.
٢) نثق ان كل ما في حياتنا بسماح وتدبير من الله
قد تواجهنا تجارب كثيرة في الحياة، وحيتان كثيرة قد تبتلعنا، لكنها لا تستطيع أن تؤذينا إن تمسكنا بالله. المهم ألا نفقد سلامنا ورجاءنا، كما فعل يونان إذ صلى وسبح الله وهو في بطن الحوت، وكما سبح بولس وسيلا وهما في السجن، وكما صلى دانيال في جب الأسود، وكما صلى وسبّح شهداء ليبيا الأبرار.

3) االتجارب كثيرة، لكن الله معنا:
التجربة لا تؤذينا إن تمسكنا بالله، كما فعل يونان عندما صلى في بطن الحوت، وكما سبح بولس وسيلا في السجن.
4) التجارب ألقابها وبركاتها:
هي “هبة إلهية”، “شركة مع المسيح”، “تأديب”، و”تمحيص للنفس”.
تكشف قوة الله، وتؤهلنا للملكوت.
5) أنواع التجارب:
لأجل الإيمان، العقيدة، التقوى، الامتحان، الدفاع عن الحق، الخدمة.
6) صفات التجارب في حياة أولاد الله:
بسماح من الله، لكنها لا تفوق الاحتمال.
معها حفظ وحراسة وتعزية.
تنتهي بفرح وسلام وإحسانات.
7) الطاعة لمشيئة الله لا لمشيئتنا:
تعلم أن تطيع الله وتنفذ مشيئته لا مشيئتك انت، فالذين يعملون مع الله لا يعملون بقدراتهم انما بقوة وقدرة الله ليس بقدرة وتعب الزارع ولا الساقي (سلمنا فصرنا نحمل)، ونتذكر نوح، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم.
8) الخادم الحقيقي لا يعمل بقوته، بل بقوة الله.
يونان والسيد المسيح:
1) يونان يحمل رموزًا قوية للمسيح، فكما أن يونان يعني “حمامة”، وهو رمز السلام، فإن المسيح هو ملك السلام ورئيس السلام، وقد دعانا إلى البساطة قائلاً: “كونوا بسطاء كالحمام”، وأيضًا: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب”.
2) يونان خالف دعوته بالعصيان، أما المسيح فأطاع حتى الموت، موت الصليب.
3) يونان هرب من دعوة أهل نينوى للتوبة، أما المسيح فجاء ليصالح السمائيين مع الأرضيين.
4) يونان كان للبحر والحوت سلطان عليه، أما المسيح فهو صاحب السلطان الذي انتهر الرياح والبحر فسكتا.
5) يونان كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وخرج حيًا، والمسيح كان في القبر ثلاثة أيام وقام حيًا بسلطانه الإلهي.
6) يونان كان يهوديًا وكرز لأهل نينوى الغرباء فتابوا، والمسيح كان يهوديًا لكنه جاء لخلاص العالم كله.
7) يونان كان متعصبًا لجنسه، فقد رفض الذهاب إلى نينوى لأنه لم يشأ أن يبشر أمة غير الأمة اليهودية، أما المسيح فكان محبًّا للجميع، فقد تحنن على قائد المئة وشفى عبده، وتحنن على المرأة الكنعانية وشفى ابنتها، وأعطانا مثل السامري الصالح ليعلمنا أن الجميع مدعوون للخلاص.
8) يونان جمع بين التناقضات، فقد كان نبيًا لكنه عصى الله، وكان رمزًا لعدل الله إذ عاقبه، لكنه كان أيضًا رمزًا لرحمة الله إذ خلصه. كان واعظ البحر والبر معًا، وكان في نظر الناس ميتًا لكن الله حفظه حيًا. كان يونان بشارة كما كان مبشرًا، وكان عظته متمثلة في حياته نفسها. هو صاحب أصغر صوم في الكنيسة، وهو أيضًا صاحب أصغر سفر في الكتاب المقدس.
فلنتعلم من قصة يونان أن نسمع صوت الله، ونتقدس، ونخضع لمشيئته، عالمين أن خلاصنا في الطاعة والاتكال على الله.

…………………………………………………

كاتب المقال: كاهن كنيسة مارجرجس بالمطرية، القاهرة

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى