قبور خاوية / رعب من نوعٍ آخر

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين
رائحة تراب المقابر المميزة، شواهد القبور المتآكلة، رهبة الموت التي تزلزل القلوب.
ظلام خانق يغلف كل شيء، لم ينجح ضوء القمر في سبر أغواره.
كل هذا لم يثن أباه عن المضي في طريقه، فتابع سيره بخطواتٍ بطيئة، تعرف طريقها جيدًا
تراقص لهب ذلك المصباح القديم بين يديه، فزاد فتيله يسترشد به في ظلمة الليل الحالكة.
ومن خلفه، كان يهرول حتى يلحق خطاه.
طفلٌ لم يتعد الخامسة عشر بعد، أورثه أبوه مهنته وفقره على حياة عينه.
شدد قبضته على تلك الفأس التي يحملها، وكأنما يستمد الأمان منها، كاد يتعثر مرارًا حتى وصلا أخيرًا إلى وجهتهما التي يعرفها جيدًا.
قبرٌ منسيّ، لا يأتيه زائرٌ منذ سنين عديدة.
لن يسأل عنه أحد.
لن يضار صاحب القبر في شيء؛ فهو ميتٌ بالفعل.
هذا ما قاله أبوه قبل أن يأتي به إلى هنا.
تلفت حوله ليتأكد من خلو المكان من الأحياء.
هو لا يخاف الأموات فهم لا يملكون من أمرهم شيئا. فقط هم الأحياء من يجب عليه أن يتقي شرهم، كما علّمه أبوه.
مد يده يلتقط المصباح منه، ليضعه بجوار سلةٍ من خوصٍ تركاها بالأمس. ووقف مكانه يرقبه في صمتٍ، يكمل ما بدأه.
انهالت ضربات الأب تشق طريقها إلى داخل القبر حتى تصاعدت الرائحة العطنة تعلن قرب وصوله إلى بغيّته، فازدادت وتسارعت حتى برزت العظام.
بعينين ملؤهما الخوف، رأي أباه يضع الفأس جانباً، وينبش التراب بيديه، ليزيحه عن رفاتٍ، كانت تسكنه روحٌ في يومٍ ما.
لحظات من السكون مضت، التقط فيها الأب أنفاسه، يمسح عرقه الغزير، قبل أن يجمع العظام في السلة بحرص، ويناوله إياها، ليصعد خارج القبر، ويعيد التراب إلى حيث كان، فتنمحي آثار فعلته.
مع أول خيوط النهار.. كان عائدًا خلف أبيه، إلى تلك المقبرة التي يسكناها مع الأموات.
ألقى بجسده المكدود، إلى جوار والده، على ذلك البساط البالي، وأسبل جفنيه مرهقًا.
كانت المرة الأولى التي يرى فيها أباه ينبش قبراً، وعلم حينذاك أنها لن تكون الأخيرة أبدًا.
**
سنواتٌ بمقدار عمره مضت، زادته فقراً.
مات والده يومًا فدفنه بإحدى القبور التي لا يسأل عن ساكنيها أحد.
كان جالسًا ذات يومٍ أمام ساحة المقبرة، حينما أقبل عليه ذلك الشيخ النحيل ذو الشعر الأشعث والعينين الثاقبتين.
– “تغيرت كثيراً يا (بكر)، ها قد صرت رجلًا.
بادله التحية بابتسامةٍ صفراء قبل أن يسأله بخبث:
– “ألا زلت تمارس أعمال الدجل؟”.
هتف الكهل غاضبًا:
– “لقد كان أبوك أمينًا في عمله؛ فأحسن ذكراه وكن مثلما كان”.
تطلع إليه ببرودٍ قائلاً: بل كان فقيراً معدماً، ترمي له الفتات.
رمقه الكهل بنظرةٍ حادة، وناوله رزمة من المال قائلًا:
– “حسنًا يا (بكر).. هاك أكثر مما تستحق، على أن تأتي لي بما أريد منك فورًا، فلن تكتمل التعويذة إلا بجمجمة امرأة”.
اختطف المال بلهفةِ جائعٍ، يستمع للكهل وعقله في مكانٍ آخر.
لم يكن يعنيه كل هذا الهراء..
فليذهب هو وسحره، وأعماله إلى أعماق الجحيم، إن كل ما يهمه هو المال.
المال الذي يفتح كل الأبواب الموصدة، حتى أبواب المقابر.
سيفعل أي شيء ليخرج من عباءة الفقر التي ورثها، حتى لو اتخذ الشيطان وليًا.
يعرف قبر تلك الفتاة التي قُتِلَت هي وطفلها منذ عامٍ مضى، ودفنها أهلها، دون حتى أن يقرؤوا بضعة آياتٍ من الكتاب على روحها.
عروسٌ في العشرينات، أسلمت قلبها وجسدها لوغدٍ ثري، خدعها وتنصل منها ومن حملها الذي أصرت على الاحتفاظ به مهما كان الثمن.
وحينما وضعته، طالبت فقط بحقه في أبيه، ولكنه قتلها وطفلها بلا رحمة.
الغريب في الأمر أنهم عثروا على ذلك الوغد غريقًا في حمام سباحة فيلته بعدها ببضعة أيام، وعلى وجهه، أقصى علامات الرعب.. ولم يتم كشف غموض الحادث أبدًا.
**
مع أولى ساعات النهار، كان يقف أمام القبر يتأمله متعجبًا.
لمَ يشعر بتلك الرهبة!
لمَ تلك الرجفة التي تسري في جسده منذ ضرب بفأسه مدخل القبر ليفتحه!
دوارٌ عنيفٌ اكتنفه جعله يترك كل شيء، ويعود أدراجه ، خلع ثيابه، وأوقد على الماء ليغتسل قبل أن يفترش الأرض، ويغط في نومٍ عميق.
**
وحيدًا سار حتى تقرحت قدماه وامتلأتا بالدماء.
لا يعلم من أين أتى.. لا يدري أين هو .
تلك رمالٌ بكرٌ، لم يجتزها أحدٌ من قبل.
تلك دروبٌ، لم يمسسها بشر.
انتابه القلق على حاله؛ فتجاوزه ببضع جرعاتٍ من زجاجة خمرٍ، يحملها.
عاود سيره محتضنًا زجاجته بقوة، وكأنما يستمد الأمان منها.
من بعيد ..
تراءت له تلك البقعة العجيبة في رمال الصحراء.
مساحة ضيقة من الرمال لونها داكن، عمّا حولها، تتألق أطرافها بضوءٍ فضي خافت.
أهو السراب ؟!
أسرع الخُطى، حتى وصل إلى حافتها، فوقف يتطلع إليها في لهفةٍ يشوبها الحذر والرهبة.
انحنى يقبض حفنة من الرمال يتحسس ملمسها.
نالت حرارة الشمس منه، فانهار جسده فوق الرمال الناعمة، وفي أذنيه ترددت صرخاتٌ لا يعلم من أين تأتي.
الأرض من حوله تتشقق، الرمال عن جسده تتباعد في بطء، ليغوص بداخلها، وكأنما تجذبه قوةٌ خفية إلى الأسفل.
شعر فجأة بما يشبه التيار الكهربي، يسري في عروقه وخلاياه، عشرات الصور والمشاهد تدفقت إلى عقله، انقضت عليه تلتهمه بلا رحمة.
دماء.. صراخ.. نحيب.
أرضٌ تغلي بالحمم، وسماءٌ بلون الدم..
الموت في كل مكان.
ومن حوله، تعود الرمال لتتجمع.
تكسو وجهه، وتتسلل إلى شفتيه حتى امتلأ بها جوفه.
انسدت أذناه، واختنقت أنفاسه، فما عاد يقوى على الحراك.
الظلام يكتنف عقله، وجسده يغوص إلى الأعماق أكثر وأكثر .
**
سعل بشدّةٍ، مفرغًا ما بجوفه من رمال، شهق بكل قوته يملأ صدره بالهواء، حينما شعر بيدٍ غليظة تعتصر صدره وتضربه على ظهره بقسوةٍ، حتى هدأ سعاله؛ فتوقفت الضربات. بعد حين.
عاد إليه وعيه وإدراكه بالموجودات، حاول النهوض، ولكنه شعر بآلامٍ شديدة في قدميه.
ألم يكن حلمًا؟!
مهلًا..
من ذاك الذي ساعده وأنقذه؟!
نهض بعد أن غالب فضوله آلامه يتلفت حوله بسرعةٍ ولهفة، يبحث عن ذلك المجهول في كل مكانٍ خارج الغرفة، دون جدوى.
**
انتصف الليل، وحان وقت العمل.
التقط الفأس والمصباح في عجالة، شرع يحث الخطى، حتى لاح له القبر المنشود.
لحظات وبدأت الضربات تزداد عمقاً، حتى ظهرت عظام الجسد.
حمل مصباحه ونزل إلى الداخل ليقف أمامها يقاوم غثيانه.
لا تزال بعض أجزائها لم تتحلل بعد.
توقف لحظات يلتقط أنفاسه، ويمسح عرقه.
لن يمكنه التراجع الآن..
ليس بعد أن وصل إلى هذا الحد
سيفعل ما لم يفعله أبوه من قبل..
أمسك فأسه من جديد، ليفصل الرأس عن الجسد، قبل أن ينزع عنها ما يحيط بعظامها.
**
– “ها قد تفوقت على والدك بالفعل”.
قالها الكهل النحيل وعيناه تبرقان بشدة ، ويداه تتحسسان عظام الجمجمة الملساء.
نهض (بكر) منصرفًا، حينما استوقفه الكهل بابتسامةٍ خبيثة قائلًا:
– “مهلًا.. لم ينته الأمر بعد”.
بنفاذ صبرٍ سأله:
= “ماذا تعني؟!”.. أليس هذا ما طلبت؟
لمعت عينا الكهل قائلًا:
– “بلى.. ولكنني أريد طفلً”ا.
نظر له في بلاهة قائلًا:
= “وما شأني أنا ؟”.
أجابه بسماجة:
– “بل هو من صميم شأنك.. ما أريده هو هيكلًا لطفلٍ صغيرٍ يا أحمق”.
ثار (بكر) قائلًا:
= “ولمَ لم تقل ذلك من قبل؟”.
أجابه الرجل بذات اللهجة:
– “لست من يملك القرار يا فتى، ما أنا إلا خادمٌ مطيع”.
**
من جديد.. عاد إلى ذات القبر.
لا يدري لمَ خطواته ثقيلة هذه المرة، لمَ يشعر بكل هذا الخوف؟!.
سطع البرق، ودوى هزيم الرعد يشق سكون المقابر بدويٍّ هادر، وكأنما تعلن السماء عن غضبها.
بضع خطواتٍ أخرى، كانت كافية، لتجف الدماء في عروقه، وترتعد أطرافه، مما لمحته عيناه.
هناك..
على شاهد القبر..
وجدها تستند إليه بفستانها الفاضح القصير، والدماء تغرق صدرها من جرح رأسها الذي ينزف بلا انقطاع، تمد له يدين ملطختين بالأوحال والدماء.
كلما سطع البرق، يراها تبكي وتلطم خديها، يسمع صوتها في عقله، تصرخ: “طفلي”.
أغمض عينيه بقوةٍ قبل أن يفتحهما صارخًا: “كلاااا”..
الموتى لا يعودون للحياة، ولا تتجسد أرواحهم.
عادت إليه عزيمته، حينما لم يجدها أمامه، فمضى يكمل ما بدأه.
كان يعلم أن الشياطين تسكن المقابر، تتخذ شكل الأموات لتضليل الأحياء.
وهو لن يخاف شيطانًا أبدا.
وضع المصباح على حافة القبر، ونزل يجمع عظام الصغير اللينة بيديه، ليضعها في سلّته.
حينها، اشتد المطر حتى صار سيلًا جعل قدميه تغرسان في الأرض الموحلة.
أفلتت يداه السلة حينما وجد الماء يجرف الطين بغزارة داخل القبر الذي كان يختلف عن القبور الأخرى.
فلم يكن إلا حفرةً في الرمال، حُفرت دون تبطين جوانبها.
علت المياه بالأوحال إلى صدره، وقدماه ما زالتا مغروستين لا يستطيع رفعهما، وكأنما تجمدتا مكانهما.
على حافة القبر.. وجدها تهيم حوله مترنحة، تتراقص كأفعى تحتضر.
ترمقه متوعدة، بعينين تشتعلان غضباً، ووجهٍ ظهرت ملامحه المرعبة، بعد أن محت الأمطار عنه، الأوحال والدماء.
قفز قلبه رعبًا حينما رآها تمد يديها داخل السلة، تحمل طفلًا يبكي بلا انقطاع، تحيطه بجسدها، كأنثى نمرٍ، تحمي رضيعها من الأخطار.
تلتفت إليه لترمقه بنظرةٍ، جمدت ما تبقى في عروقه من دماء، قبل أن تبتعد بوليدها، وتختفي في الظلام كأن لم تكن.
حاول الصراخ بكل قوته، عسى أن يسمعه أحد، ولكن شيئًا ما كان يكبل صراخه، كما يكبّل حركته.
الأرض من تحته تتهاوى، والرمال عن جسده تتباعد في بطء، ليغوص بداخلها، وكأنما تجذبه قوةٌ خفية إلى الأسفل.
سطع البرق فجأة، فشعر معه بتيار كهربي، يسري في عروقه ويزحف ليستقر في عقله.
عشرات الصور والمشاهد انقضت عليه تلتهمه بلا رحمة.
دماء .. صراخ.. نحيب ..
أرضٌ تغلي بالحمم، وسماءٌ سوداءٌ قاتمة.
الموت في كل مكان .
ووسط كل هذا العذاب..
وجدها تقف حاملةً وليدها بين يديها، تنتظر لحظة القصاص العادل.
حينئذٍ فقط..
تذكر تلك الرؤيا التي رأى، وأدرك تأويلها بعد فوات الأوان.
انهالت عليه الأوحال، تلطخ وجهه، وتقتحم جوفه، حتى امتلأ بها.
جحظت عيناه بشدة، وتقوس جسده بينما الروح تغادره مرغمة.
توقف الجسد المنهك عن المقاومة، عسى تُخفف عنه آلامه..
لحظات وينتهي كل شيء..
وحينها فقط..
يبدأ الرعب.