محمد قدرى حلاوة يكتب: الأحلام المؤجلة

بيان

(١)

كان يومًا قائظ الحرارة.. ارتحلت السحب مهاجرة إلى فضاء بعيد، وبقيت الشمس متسيدة، تلهب رؤوس البشر.. انتهى لتوه من “تحميل” العربة وربطها جيدًا.. كان يعقد الحبال ويشدها (يسلب) على جوانب “أقفاص” الطماطم، حريصًا على إحكام القيد والعقد.. وقف يستريح قليلًا في ركن منزوي من صندوق السيارة، ينز عرقًا وقد بدت عروقه نافرة تكاد تمزق جلده، وقلبه يدق بعنف كدقات الطبول في غابة إفريقية.. أشعل سيجارة وألقى بعود الثقاب بعيدًا، منتظرًا أن ينتهي “الأسطى” من كوب الشاي وحجر الشيشة حتى ينطلقوا في الطريق.. كانت هناك مساحة ضيقة كافية لكي يجلس، لكنه آثر الوقوف حتى لا يزيده “صاج” السيارة الملتهب كدًّا وعناء..

أخيرًا، تقدم الأسطى نحو السيارة مخاطبًا إياه: “سلبت البضاعة كويس يا عم ضاحي؟”.. أجابه بالإيجاب، وانطلقت السيارة نحو وجهتها، وصوت المدائح النبوية يعلو من مسجلها.. هواء الطريق المفتوح لطف من الحرارة ومن وقع الشمس المتسلطة.. تكوَّم “ضاحي” أخيرًا ضامًّا قدميه إلى صدره.. شعر بعد حين بالجوع والعطش الشديد.. قارورة الماء خاوية.. نسي أن يملأها من المبرد القابع في أول الطريق.. ليست المرة الأولى التي ينسى.. ينسى أشياء كثيرة تلك الأيام.. يبدو أن الذهن يتخفف من أعباء التذكر كلما مرت الأيام وتقدم العمر.. النسيان نعمة أم نقمة؟.. منحة أم لعنة؟.. سؤال يسير وإجابة قاسية عسيرة..

كانت حبات الطماطم تبدو ناضرة لامعة أمام عينيه.. يمكنه أن يأكل منها ما يشاء.. يطفئ نهم جوعه وإلحاح ظمئه.. همَّ بأن يفعل.. هاتف داخلي هتف به: “حرام”.. الحرام والحلال.. تلك المعاني المطلقة النسبية في آن.. ما هو الحرام وما هو الحلال؟.. ما المكيال الوازن؟.. الدين؟.. الثقافة؟.. قيم المجتمع؟.. ما بال ذلك الميزان الصارم لا يكاد يسكن سوى قلوب البسطاء؟.. يتمسكون به.. يقبضون عليه بشدة.. كلما رفل المرء في النعيم تراخى الميزان وترهل.. اتسعت الكفة وخف الثقل.. آه من هذا الهاتف اللعين الذي يسكن الحشا والحنايا: “الضمير”.. لولاه، لصارت الحياة أسهل بكثير.. هل من العدل أن يردعك ويصفعك وحدك ويترك الآخرين؟.. فكر أن ينقر على “كابينة” العربة طلبًا للماء.. لكنه لم يبق من الطريق سوى القليل.. و”الأسطى” عندما ينطلق ويكون طربًا من المدائح، لا يسمح لأحد أن يوقفه.. قليلًا من الصبر والجلد.. سيصل حتمًا وينتهي كل شيء.

(2)

سنوات الصغر.. بضعة حبات من عقد العمر انفرطت منه هاربة نحو السعادة والضحك والبكاء والأحلام.. الانطلاق في الحقل.. العراك ولعب الحجلة.. سنوات قليلة والتحق بالمدرسة.. لم يستمر فيها كثيرًا، ولم يلح عليه أحد.. متطلبات الحياة لا تتوقف، وطاحونتها تدهس كل شيء.. كان يشاهد والده عائدًا من الحقل كل يوم منهكًا.. بضعة لقيمات وحجر “الجوزة”، ثم يذهب ليغط في نوم عميق.. يستيقظ في ساعات الفجر الأولى ليعيد نفس الدائرة المعتصرة للروح والجسد.. حاول “ضاحي” أن يتعلم بعض المهن، لكنه لم يتحمل قسوة “الأسطوات”.. ذهب مع عمه سائق سيارة “النصف نقل” صبيًا صغيرًا بلا عمل يذكر، ثم فتى وشابًا “تباعًا”.. قوته الجسدية أهلته لهذا العمل الشاق.. بعد أن باع عمه السيارة، تنقل ليعمل لدى الآخرين.. سلاحه يده وكاهله وظهره.. ما أقسى أن تثقل كاهلك هموم الحياة وأثقال البشر!.. لكنها الضرورة، وللضرورة أحكام.. لتقيم أودك، تصلب ظهرك.. ألم أخبركم من قبل بقسوة الأمر؟..

حلم الهجرة للخليج.. بلاد النفط وأحلام الثراء والغنى.. تزوج ابنة عمه قبل السفر.. أقام في بيتهم المتواضع في ذات حجرته.. وسط الأب والأم والإخوة تصبح الحياة أكثر دفئًا لكنها مزدحمة.. مكتظة.. حلم البيت “الملك” والسيارة “النصف نقل” يتملكه.. بضعة سنوات أخرى من الكد والشقاء، ويتحقق حلمه ويستريح للأبد.. لا بد أن يعلِّم أبناءه ويقسو عليهم حتى لا يكدوا كده ولا يشقوا مثله.. لكنها الأحلام عندما تتحول أضغاثًا.. كلما اتسعت، ضاق الواقع.. نصب عليه أحد أبناء جلدته.. باعه ورقة وهمية لعقد عمل مزعوم.. كان لا بد له من الصمود، لا يملك خيارًا أو ترف الفشل.. لا مفر من البحث عن “كفيل” يقبل ضمانته.. لا بأس بالأمر.. طوفان من قرنائه تعرضوا لذات الموقف.. المصري الشريد في بلاد الله.. يبحث عن “سيد”.. عبودية العصر الحديث تملك رطانتها وألفاظها المراوغة المتماهية.. لكنها “لقمة العيش” بأحكامها القاسية.. كان الكفيل فظًّا غليظًا.. يسبه في كل وقت وحين.. لم يعد في قوس الصبر منزع.. فليعد إلى أرضه وقريته.. لا يزال قويًا عفيًا.. يمكنه تحقيق أحلامه هناك.. حيث الجذور وآثار الخطو.. فليتواضع بأحلامه قليلًا.. يمكن للبيت “الملك” أن ينتظر.. للسيارة “النصف نقل” أن تتضاءل إلى “تروسيكل”.. كرامته لا تتحمل أكثر من ذلك.. بعد أن يحصل على جواز سفره، لا بد أن ينتقم من “الكفيل”..

أفرغ له إطارات سيارته الفارهة الأربع، وانطلق فارًّا نحو الباخرة.. كان مزهوًّا بنصره الصغير.. انتصاراتنا الصغيرة تلطف نهش هزائمنا وانكساراتنا الدامية.. شعر براحة غريبة عندما وطئت قدمه رصيف الميناء.. غريبة تلك البلاد، والأكثر غرابة ذلك الحنين إليها.. جلس مع أصدقائه في المقهى.. أخذ يروي لهم كيف تعارك مع الكفيل وصفعه على وجهه وضربه “علقة” قاسية، مصرًّا على المغادرة رغم توسلات الكفيل.. أحيانًا ما يكون الكذب ترياقًا شافيًا لجروح الروح النازفة.. عندما لا يحدث ما نتمنى، نخال ونتمنى أن يحدث.. نصدق أنه حدث.. يجب أن نستمر ونضمد الجراح… نتنازل عن الأحلام، وتتضاءل فينة بعد أخرى.. واحدة واحدة.. حتى ننسى الحلم ونتجاهل الواقع.. ونكذب.. نكذب كثيرًا.. هل ثمة فارق كبير بين الأحلام والترهات والأكاذيب؟..

(3)

تناول جرعة كبيرة من الماء دفعة واحدة.. أخذ يحل “السلبة” ويفك العقد.. ويفرغ حمولة أقفاص “الطماطم”.. جلس يستريح تحت ظل شجرة صغيرة يلوك بضعة “ساندوتشات” من “الفول” و”الفلافل”.. وقد شرد بفكره بعيدًا.. بلغ الخمسين ونيفًا من عمره.. ملامحه كأنه كهل في السبعين.. أحيانًا ما تخط أثقال الحياة ملامحنا وتعبث بها.. لم تتحقق أحلامه الكاذبة ولو شطرًا يسيرًا منها.. ما زال يقطن في بيت العائلة.. زاد الازدحام والضجيج بقدوم الأنجال.. توفي والده منذ بضع سنوات.. دخل لينام مكدودًا كعادته ولم يستيقظ تلك المرة.. لم يتغير شيء، ولم يشعر به أحد.. لم يهتز الكون لوفاته.. الحقل الممزوج بعرقه لا يبكي عليه.. يحيا وينمو.. يكبر ويطرح.. الحياة لا تبالي بأحزاننا ولا تتوقف لحظة لتمنحنا لحظة رثاء..

السيارة “النصف نقل”.. ابتسم لأول مرة.. تصاغرت هي الأخرى.. “ربع نقل”.. “تروسيكل”.. حتى الأخير يبدو له سرابًا.. من أين له بثمنه؟.. لماذا لا يقتني عربة “كارو”؟.. لم يفكر في الأمر من قبل.. العربة و”الحمار” و”العليق”.. يمكنه ببعض العمل المتواصل أن يوفر ثمنها.. أشعل “سيجارة” وترك دخانها يسبح مع حلمه الجديد.. يمسك الآن باللجام ويتحكم في وقع الخطى..

لن يكون قاسيًا مع “حماره”.. لن يحمله فوق طاقته وكاهله.. هو يشعر به.. هل يمكن للمرء أن يكرر جرائم الآخرين التي قاساها على من هم أدنى منه؟.. نعم، مدير المركز يفعلها مع العمدة.. والعمدة يمارسها على الغفراء.. والغفراء يثقلون بها الفلاحين.. لكنه لن يفعلها.. سيكون “الحمار” بمثابة صديقه.. سيعامله برفق كما يعامل أبناءه.. ظهره قد بدأ يئن.. وعوده ينحو للانحناء.. آه من الزمن!.. ذلك الكائن الغامض المجهول.. الغد مرعب لمن هم مثله.. المرض صنو الموت تمامًا.. أن يتقاعد عن العمل، ذلك حكم باتّ ونهائي بالموت..

“يالا يا عم ضاحي.. إنت نمت ولا إيه؟”.. صاح به الأسطى.. قام بسرعة يرتب صناديق “التفاح” الأحمر ويحكم عقد الحبال حولها.. انطلقت السيارة عائدة، وجلس في ركنه الصغير مستمتعًا بالهواء.. أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته وهو يفكر بعمق.. أين يربط “الحمار” المنتظر؟.. داخل المنزل بجوار الجرن؟ قد يحدث ضجيجًا ويزيد الحلبة.. لا بأس من ربطه خارج المنزل مؤقتًا.. من يدري؟.. ربما يخصص له مكانًا في بيته “الملك”.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى