عبدالحليم قنديل يكتب: مستقبل حزب الله

بيان

“بيننا وبينكم الجنازات” عبارة منسوبة تاريخيا للإمام “أحمد بن حنبل” ، كان الفقيه المرموق إمام أهل السنة فى زمانه ، ويروى أنه ذكر العبارة المعنية فى ذروة تحديه لأهل البدع ، والمثير على اختلاف القرون ، أن حكم إمام السنة صدق فى حق أعظم زعماء الشيعة العرب فى عصرنا “السيد حسن نصر الله” ، ليس لأنه فقيه أو مرجع دينى ، بل لأنه كان إماما لسنة المقاومة وأهلها على مدى أربع عقود خلت ، فقد شارك فى تشييع “نصر الله” عدد هائل من الناس يقارب عددهم المليون ، وفى تقديرات متحفظة مدققة ، جاوز العدد ثلاثة أرباع المليون ، وهو حشد أسطورى بالقياس إلى ظروف يوم التشييع المتأخر كثيرا عن صدمة يوم استشهاده ، وبالقياس إلى ظروف طقس معاكسة ، سادتها البرودة الشديدة وهطل الثلوج بغزارة ، وبالقياس إلى حجم سكان بلده الصغير “لبنان” ، فهذه أكبر جنازة لزعيم لبنانى بإطلاق ، بل أنها واحدة من أكبر الجنازات الأسطورية فى التاريخ الإنسانى كله ، وعلى رأسها جنازات الزعيم جمال عبد الناصر والإمام الخمينى وكوكب الشرق أم كلثوم والأميرة ديانا والبابا يوحنا بولس السادس .

وقد اختلفت الآراء والمقاربات القارئة ليوم تشييع “نصر الله” ، بحسب توزع المواقع السياسية غالبا ، فكل جماعات إسرائيل فى لبنان والمنطقة العربية عموما ، اعتبرت دفن “نصر الله” دفنا للمقاومة ، وبعض ضحايا أخطاء وخطايا الرجل وحزبه فى سوريا بالذات ، لم يتخلفوا عن مواكب الشماتة فيه ، وفى قتله على يد كيان الاحتلال “الإسرائيلى” وطائراته وقنابله الأمريكية الضخمة ، وكل ذلك مفهوم ومعذور أحيانا ، وإن كان النقاش فى جوهره ليس محصورا فى التشفى بالرجل ، بل بالتساؤل عن مستقبل حزبه “حزب الله” بعد رحيله ، وهو القائد الأبرز فى سيرة “حزب الله” وإن لم يكن القائد المؤسس ، فقد قضى فى قيادة الحزب أكثر من ثلاثة عقود ، صنع فيها وهج الحزب لبنانيا وعربيا وعالميا ، وبنى مؤسساته المتشعبة متينة التكوين ، وجعله أكبر أحزاب لبنان والمشرق العربى كله ، وكان شخصية كاريزمية جامعة ، قادت “حزب الله” ومقاومته إلى انتصارات كبرى ، أبرزها تحرير الجنوب اللبنانى فى أواخر مايو 2000 ، ومن دون أن يتورط فى توقيع اتفاق استسلام ولا صك تطبيع مع العدو ، ثم كان خوضه معركة كبرى مع جيش العدو طوال يوليو “تموز” 2006 ، وصولا إلى مبادرته بخوض حرب إسناد للمقاومة الفلسطينية مع عملية “طوفان الأقصى” التى تبعتها حرب الإبادة الجماعية فى “غزة” ، وإلى أن تطورت الدراما الحربية غير المسبوقة ، وقرر العدو “الإسرائيلى” الأمريكى ، أن يخوض حرب إبادة “حزب الله” نفسه مع مقتل “حسن نصر الله” فى 27 سبتمبر 2024 ، ومن قبله هجوم “البيجر” و”اللاسلكى” والاغتيالات المتتابعة لعدد كبير من قادة الصف الأمامى لحزب الله ، وفى المقتلة “الكربلائية” الدامية وبعدها ، بانت مخاطر خروق أمنية واسعة ، تعرض لها “حزب الله” ، جاءت غالبا نتيجة توسع عمله فى بيئات وساحات هشة مليئة بالمتربصين والجواسيس من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا بالذات ، فيما بدا من خطايا “نصر الله” بشخصه وسياسته ، غير أن حسنات الرجل وأفضاله راحت ترأب الصدوع ، على نحو ما بدا فى المقدرة اللافتة المعجزة للحزب على استعادة تنظيمه الدقيق فى نحو عشرة أيام لاغير ، وبالذات فى التنظيم العسكرى للحزب ، الذى أفادته ميزة الإحلال التلقائى للقيادات والاستعداد المسبق بتجهيز البدائل ، وبما مكنه من القتال الأسطورى الكفء طوال أكثر من شهرين ، وضد خمس فرق من جيش العدو ، لم تستطع التقدم بريا إلى عمق الجنوب اللبنانى ، وظلت عند قرى الحافة الجنوبية الحدودية ، وبما دفع العدو إلى طلب اتفاق لوقف النار ، كان تكرارا فى نصوصه الأساسية للقرار الأممى 1701 الصادر عقب حرب 2006 ، وهو الاتفاق الذى تلكأت “إسرائيل” فى تنفيذه ، وانتهكته مئات المرات قبل وبعد مد وقت مهلة انسحاب العدو إلى 21 يوما إضافية بعد شهرى وقف النار ، وظلت “إسرائيل” تحتفظ باحتلال خمس تلال استراتيجية على الحدود ، وهو ما يمنح “حزب الله” مبررا لبنانيا إضافيا لاستئناف المقاومة المسلحة مع تغير الظروف ، ومن دون إغفال مصاعب كثيرة مضافة يواجهها “حزب الله” على طريق استعادة حضوره ، بينها المساعى الأمريكية “الإسرائيلية” الضاغطة فى الداخل اللبنانى ، وتحفز جماعات “إسرائيل” اللبنانية للسعى إلى نزع سلاح “حزب الله” ، حتى لو كان الثمن إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة ، لا يحول دونها سوى تفوق القوة العسكرية والسياسية لحزب الله ، وقوة واتساع تنظيمه ، على نحو ما بدا فى يوم تشييع زعيمه التاريخى “حسن نصر الله” ، الذى لم يخف يوما طبيعة علاقة حزبه بالقيادة الإيرانية ، وقال ذات مرة بوضوح قاطع “سلاحنا وأكلنا وشربنا يأتى من الجمهورية الإسلامية الإيرانية” ، وفيما تعرف جماعات “إسرائيل” اللبنانية ، أن أى مواجهة لها مع “حزب الله” ستكون خاسرة بالتأكيد ، وتسعى لاستجلاب المدد من العدو “الإسرائيلى” الأمريكى نفسه ، وتريد أن يدمر لها العدو “حزب الله” كما قتل زعيمه الأشهر بمئة طن متفجرات ، بينما أثبتت تجربة قتل “نصر الله” ، أنها لا تؤدى بالضرورة إلى قتل الحزب ، الذى لا يزال يحتفظ بأغلب مقدراته الصاروخية وطائراته المسيرة المتطورة ، وبمصانع سلاحه تحت الأرض ، وحتى بأنفاقه وسلاحه ومقاتليه فى الجنوب اللبنانى نفسه ، ويحظى بالتأييد الجارف عند قواعده الاجتماعية الكبرى ، ويبتكر الحيل والطرق لفك الحصار ، ويطور أساليب التواصل مع الداعم الإيرانى الرئيسى ، ويجرى مناورات سياسة مع حلف الخصوم فى الداخل اللبنانى ، ويعد لصيغ مقاومة تخفف دواعى الصدام مع الدولة والجيش اللبنانى ، ومن دون استهانة بالأثر الخانق لأحداث وتبدلات سوريا الجديدة ، التى قطعت شريان الاتصال البرى الميسر مع إمدادات السلاح الإيرانى ، وإن كانت الفوضى المتصلة فى الداخل السورى مما قد يخدم “حزب الله” ، وعناصر التفكيك فى سوريا متفاقمة الأثر ، وقد تدفع الوضع السورى إلى مخاطر التقسيم ومضاعفة ثقل النفوذ الخارجى ، فقد أخرجت إيران من سوريا ، وحل محلها نفوذ تركى مرئى ، مع استمرار النفوذ الأمريكى بقواعده العسكرية فى شمال شرق سوريا بالذات ، والأخطر ما تترى حوادثه من نفوذ كيان الاحتلال “الإسرائيلى” الذى دمر بالكامل كل مقدرات الجيش السورى ، الذى جرى حله مع سقوط طغمة بشار الأسد ، ولم يعد لسوريا جيش رغم إعلانات متكررة عن السعى لبناء جيش جديد ، والحد من توسع انتشار جماعات مسلحة على أسس عرقية وطائفية ، لا تخفى “إسرائيل” نيتها لاستثمارها لتقسيم سوريا ، من وراء دعم عناوين “اللامركزية” و”الفيدرالية” وغيرها ، وحديث حكومة “بنيامين نتنياهو” عن استعدادها لبسط حمايتها على جماعات مثل “الدروز” وغيرهم ، ثم إعلانها عن “نزع سلاح” ثلاث محافظات فى الجنوب السورى ، إضافة لاحتلالها الدائم لهضبة الجولان ، ثم شفعها لإنذار نزع السلاح بهجمات جوية وبرية طالت محافظات “القنيطرة” و”درعا” وصولا إلى “ريف دمشق” ، ومن شأن هذه التطورات ولواحقها المنتظرة ، أن تؤدى فى المستقبل القريب والأبعد إلى مشهد أخطر ، تسعى فيه “إسرائيل” بتفويض أمريكى إلى صنع خرائط جديدة ، تلحق فيها سوريا بغالب مناطقها باحتلال “إسرائيلى” مباشر وغير مباشر ، يستفز قواعد الشعب السورى، وقد يدفعها لدعم نشوء حركات مقاومة مسلحة ، قد يجد فيها “حزب الله” سندا لفك الاختناق اللوجيستى من الجهة السورية .

وبالجملة ، قد لا يبدو مستقبل “حزب الله” رهينا بتمنيات الخصوم أو الأصدقاء ، والقدر المتيقن منه موضوعيا ، أن الحزب واجه ويواجه تحديات صعبة ، إضافة لتلقى ضربات موجعة ، لكنه يبقى كيانا أصيلا راسخ الجذور ، وليس شجرة “لبلاب” تميل مع الريح ، فقاعدته الاجتماعية واسعة ، ومؤسساته راقية التنظيم ، والحاجة إليه لبنانيا وعربيا لا تنفد فى المدى العاجل والآجل ، وإلهام زعيمه التاريخى غاية فى التأثير ، بل تبدو المفارقة الظاهرة ، أن “إسرائيل” ذاتها تلعب دورا ملحوظا فى تجديد دور “حزب الله” ، فما من تراجع وارد فى عدوانية ووحشية كيان الاحتلال ، لا فى فلسطين ولا فى لبنان ولا فى سوريا ، وطغيان الاحتلال يؤدى إلى تحفيز خط المقاومة لا العكس ، و”حزب الله” مدرسة مقاومة ، بنيت على أساس روح استشهادية ، لا تؤثر فيها الخسائر البشرية ولا المادية ، ولا الدمار الشامل ، فالمقاومة تنهض دائما من رماد ، وتجربة “حزب الله” جمعت الحس الاستشهادى المبارك إلى تطوير التكنولوجيا الحربية المتحدية ، ونشأت أجيال قادرة على استيعاب دروس المواجهات الأخيرة ، التى لم تنهزم فيها المقاومة الجديدة ، وإن كان الطريق إلى النصر الكامل لا يزال شاقا ، ويمضى عليه الحزب الذى بناه “حسن نصر الله” ، ولا يموت بموته الجليل .

[email protected]

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى