العصفور والبلبل / سردية

 

 

 

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين

تردد صوت دقات كعبها العالي يبدد سكون ذلك الشارع الهادئ، معلناً مرورها من هناك بلحنٍ أنثوي سافر، شاركه فيه خلخالٌ ذهبي ملفوفٌ على استحياء، حول ساقها المرمرية الناعمة.
فستانها الأسود الضيق يكاد يتفتق عن جسدها، ليكشف مفاتنها الحبيسة، حتى بعد أن أرخت أربطة ظهره المكشوف.
ما زالت تحمل ذات الملامح الفاتنة، رغم ما مر عليها من سنين، لم تنل الدنيا من جمالها شيئاً؛ لا يزال جسدها يُسيل لعاب كل جائعٍ محروم، يشتهي خلود الشجرة المحرّمة.
يأتون إليها كل يومٍ لعلهم يحظون شرف لمساتها، ودفء أحضانها ولو لدقائق معدودةٍ، تعرض فيها بضاعتها الغالية أمام أعينهم، تبحث بينهم عمّن هو جديرٌ برحيق أزهارها النضرة..
من يستحق أن يجني ثمار فاكهتها الناضجة؛ فتمنحه فرصة عمره ليختبر معها عوالماً في العشق، لم يسمع بها من قبل.
ولكنهم دائماً ما يعودون خاويي الوفاض.
هم يدركون ذلك جيداً، كما يدركون أيضاً أن عينيها الساحرتين اللتان تعداهم بنعيم الدنيا، مليئتان بحزنٍ عميق.
يعلمون يقيناً، أن خلف تلك اللعوب الماجنة، توجد امرأة أحبت بإخلاصٍ وصدقٍ يوماً ما.

كانت قد أنهت إحدى سهراتها الصاخبة، حينما وجدت مدير أعمالها ينتظرها في سيارتها الفارهة، وفي يده تلك الدعوة التي اهتز لها كيانها كله، ما أن وقعت عليها عيناه.
دعوة لحفلٍ خاص في فيلا تعرفها جيداً.
خفق قلبها بشدة ما بين رغبةٍ للقاء، وخوفٍ من مجهول.
وحين انطلقت بها السيارة..
انطلق مع هدير محركها هديرٌ آخر.
شريط من الذكريات مر أمامها؛ فأغمضت عينيها تسترجع تلك الأيام في لذّةٍ مؤلمة.
حينما اقتربا من وجهتهما، أصرت أن يوقف السيارة، لتنزل منها وتمشي على قدميها في ذلك الشارع الذي كان شاهداً على كل شيءٍ منذ البداية.
وقفت على مدخله الواسع، تتلفت حولها برهبة، وأنفاسها تتلاحق بشدة.
هنا أحبت بكل كيانها يوماً ما..
هنا أسلمت نفسها لأول مرة، بكل رضا..
لم تكن الأخيرة، بل كانت فقط البداية.
سنواتٌ عديدة، تحاشت فيهن المرور ب”شارع البحر”..
كانت دائماً تتخذ الطريق الأطول، رغم أن الشارع يختصر الكثير إلى حيث تقطن، إلا أنه قد بات يمثل لها ذكرى مؤلمة طوال حياتها.
الغريب أنها اليوم تجد في نفسها الرغبة والشجاعة لتلبي تلك الدعوة، يملؤها الحنين لذات الشارع دون أن يمنعها خوفها كالعادة.
كل شيءٍ لا يزال كما عهدته.
نفس الهدوء..
نفس الرتابة..
نفس الوجوه العابثة التي تطل عليها من شرفات المباني الفاخرة.
الآن تتذكر كل ما حدث، كما لو كان البارحة.
بخطواتٍ متئدة، اتجهت إلى تلك الفيلا التي تحتل موقعاً فريداً في آخر الشارع.
وقفت أمام لافتتها المضيئة تتأمل حروفها الأنيقة.
“فيلا (كمال عزمي)”.
كمال.. المخرج السينمائي المعروف، ورجل الأعمال الوسيم.
حب حياتها الوحيد، وأول من فتح لها أبواب الشهرة والمجد.
سرحت بأفكارها في الماضي تتذكر ما حدث حينما…..
-“اليوم انتهى”.
شهقت برعبٍ حينما سمعت العبارة بذات الصوت الرخيم، فالتفتت إلى صاحبه هاتفةً بغضب:
-“تباً لك حقاً يا رجل.. لقد أفزعتني.
ما زال صوتك يثير خوفي حتى الآن “.

اقترب منها بهدوئه المستفز وملامحه الغريبة التي زادها الكبَر غرابة قائلاً بابتسامةٍ عريضة: سيدة (سميحة)..
كيف حالك سيدتي الصغيرة.

ابتسمت بأسى وهي تتحس جسدها وتدور أمامه قائلة: لم أعد صغيرة كما ترى..
أم أن عينيك لم تعد تريان جيداً أيها الكهل..
قُل لي.. أما زلت تعمل معه؟!

تأمل جمالها الساحر للحظات، انتقلت عيناه بعدها إلى فستانها الفاضح.
تسلل الحزن إلى ملامحه على ما وصل إليه حالها، تألقت دمعة في عينيه، مسحها بكفه قائلاً: وأين كنت سأذهب؟!
سامحيني يا صغيرتي.. أنا السبب في كل ذلك.

تنهدَت قائلة: وما ذنبك أنت يا رجل!!
لم تكن إلا مجرد مسرحية هزلية، أديت فيها دورك مثلنا جميعاً.
هوّن عليك؛ فكلانا كان يبحث بشغفٍ عن دورٍ كبير في مسرحيته الغنائية.

أطرق برأسه حزناً وخجلاً منها وهو يقول بصوتٍ خفيض:
-” حسناً يا صغيرتي..
يبدو أن الحقيقة بالفعل تسطع مهما طال الزمن..
تعالي معي”..
قالها وهو يتقدمها إلى حديقة الفيلا، ذات الإضاءة الخافتة والموسيقى الهادئة.
خفق قلبها حينما رأت (نادية) خطيبة (كمال) السابقة، تجلس إلى جانب (شريف) مساعده الأول ومدير أعماله، لم يكن يبدو عليهما أي أثرٍ للمفاجأة، وكأنما كانا يتوقعان حضورها وينتظرانه.
تبادلت التحية معهما، ثم جلست مقابلة للشيخ، تنتظر ما سيقول، قرأ الحيرة والترقب على محياها الجميل؛ فقال مشفقاً بها : ما لا تعرفينه يا صغيرتي، هو أننا جميعاً كنا على علمٍ بما يفعل، بل إن بعضنا كان يساعده في البحث عن الفتيات اللاتي يتمتعن بالجمال والصوت العذب.
نظر إليه (شريف) بضيقٍ وأشاح بوجهه بعيداً، فابتسم مستطرداً: كنا نعلم يقيناً بما سيفعل معكِ، لم تكوني الأولى، ولم تكوني الأخيرة أيضاً.
أشار إلى (نادية) قائلاً بخبث: تذكرينها بالطبع..
تلك المرأة المتسلطة التي كانت تكرهك وتريد دور البطولة لنفسها.
تعرفين أن (نادية) كانت خطيبته، ولكن ما لا تعرفينه، أنها كانت أولى ضحاياه اللاتي خدعهنّ بأسم الحب.
أسلمت قلبها إليه، وحينما ارتوى من رحيقها، بات مذاقه كمرارة الحنظل في جوفه، وكنتِ أنتِ البديل الأنسب.
كنتِ الأجمل والأصغر سناً، الأروع غناءاً وروحاً.
جميعنا أحببناكِ وتمنينا حقاً لو أنه تغير على يديكِ.
تنهد بعمقٍ قبل أن يستطرد قائلاً: ما لا تعلمينه أيضاً، أنني أنا من كتب السيناريو الأصلي لتلك المسرحية الغنائية، وقد تم تعديله فيما بعد، حينما علمنا عمرك الحقيقي.
ابتسم بسخرية قبل أن يقول: العجيب أنني كتبت القصة كما أراها، ولكنه غير ملامح السيناريو ليتناسب مع ما يريد هو”.
انتبهت لكلامه فسألته: ماذا تعني بالضبط ؟
سمعت صوتاً من خلفها يقول: يعني أن المسرحية كانت واقعية جداً بنفس أحداثها وأبطالها يا فاتنتي.
وكنت أنا أقوم بدور (كمال عزمي).

التفتت إليه بدهشةٍ بالغة وهي تقول: أنت ؟!
أنت ذلك الصياد!!
ضحَكت متابعة: أنت من أنقذتني من شياطين الإنس في النهاية، وكنت ستحكي لي “حكاية البلبل” التي وعدتني بها، لولا إصرار العم (حزومبل) السخيف على انتهاء اليوم، بصوته الأجش.

تنحنح الرجل في خجلٍ قائلاً:
-“تقصدين حكاية “العصفور والبلبل” يا سيدتي.
انتظري، وستفهمين”.
التفت إلى الشيخ قائلاً: هيا يا عم (حزومبل)..
أخبرها بكل شيء.

اعتدل الشيخ مبتسماً وهو يقول: حسناً يا صغيرتي.
استرجعي معي بداية الاستعراض.
كنت تلعبين مع صديقاتك الفتيات الصغيرات حينما مررت أنا بكنّ ونهيتكنّ عن اللعب، غضبتِ وسألتني عمن أكون، أخبرتك أنني العم (حزومبل)، فاعل الخير الذي يحب مساعدة الغير.
همَسْتِ لي بسرٍ خطير، أنك تحلمين أن يصير عمرك عشرين كي تجذبي انتباه شاب بالخامسة والثلاثين.
ألم تنتبهي أنه نفس فارق السن بينكما؟!
المهم أنني وافقتك على مضض ليومٍ واحدٍ فقط، ثم شددت عليكِ أن أكون معكِ طوال اليوم.
سرنا أنا وأنت حتى وصلنا إلى شاطئ البحر..
ألا يذكرك اسم الشارع بشيء؟.
على مقربة من الشاطئ، كانت مراكب الصيادين الذين يرمون شباكهم في بحر الهوى، وينتظرون بطول بالٍ لا ينافسهم فيه أحد، ليحظوا بصيدهم الثمين.
وأنتِ وغيرك ممن سبقوكِ، كنتن تتمنين النزول سريعاً في بحر الهوى وخوض غمار أمواجه المتلاطمة.
تجدين الفتيات العرائس بفساتين الزفاف يجلسن على الصخور بين الأمواج، يسألن الصيادين عن (مرجانة)..
تلك الفتاة التي سبقتك، وكان مصيرها أن غدر بها الصياد كما فعل بهن جميعاً.
ويحلف لهنّ الصيادين -وهم في ذلك على حق- أنهم لم يروا تلك ال(مرجانة) أبداً، ولا حتى (قشر البياض)، ويعدوهن أن يبحثوا لهن عنها، وإن وجدوها، فلسوف يبعثون بها إليهن ومعها (سردينة).
بالطبع كل هذه الأسماك ترمز لفتيات تغيبن بالفعل واختفين في بحر الهوى من قبل.

هتف (شريف) بحماس: أخرجت ذلك المشهد بنفسي..
هنا تتوترين وتسألين من هؤلاء الفتيات، ولماذا هم حزينات هكذا؟!، يخبرك الصياد أن بحر الهوى غدّار والخطوة فيه كالفدّان طولاً وعمقاً، وقد نزلن بساعة شوقٍ قبل الأوان بأوان.
تفزعين وقتها وتذهبين بنفسك إلى ما هو أسوأ – أو كما كنتِ تتخيلين أنه أسوأ- فيلتف حولك الفتيان والرجال يريدون أن ينالوا منك ما استطاعوا.
تتسائلين بمرارةٍ والدموع تملأ وجهك، أهذه هي الدنيا ؟!
أهكذا هم الناس؟!
لحظتها تتمنين لو تعودين طفلة مرة أخرى لترجع إليكِ ضحكتك البريئة الصافية.

أكمل الشيخ قائلاً بأسى: فأجلب إليكِ (الصياد) بنفسي كي ينقذك من براثن الوهم كأبطال الأساطير، وأنا وأنتِ لا نعلم حقيقته.
ولكن تتضح نواياه الخبيثة حين يعرض عليكِ الذهاب معه إلى بحر الهوى ويحاول إقناعك بتسليتك في الرحلة بتلك الحيلة التي يستخدمها دائماً ..
حكاية “العصفور والبلبل”.
حكايته التي يلعب بها على أوتار الفتيات الصغيرات ليقعن في شرك حبه.
أتدخل أنا لمنع تلك الكارثة -بحجة أن اليوم انتهى- بعد أن علمت ما يضمر.
وهكذا، تنجين من براثنه.
أو تنجو من تأتي مَن بعدك على الأقل.
تحجرت دمعة حزينة في عينيها تأبى النزول، هبّت من مكانها منصرفة، حينما سمعت صوت سيارة تدخل إلى الفيلا ويهبط منها (كمال) بجانبه فتاة صغيرة رائعة الجمال، يحتضنها برفقٍ وحنان.
اقترب منهم وعلى شفتيه ابتسامةٍ واثقة، نقل بصره بينهم قائلاً: أرى أنكم تلقيتم دعوتي جميعاً..
قدم الفتاة إليهم مستطرداً : لدينا عملٌ كثير..
فأنا أريد منكم أن تجعلوا من تلك الصغيرة نجمة تلمع في سماء الفن.
سنعيد عرض المسرحية الغنائية ببطلتها الجديدة.
نظر إلى (سميحة) مبستماً بخبثٍ قبل أن يقول:
-“أريدك أن تعلميها كل شيء..
لا تندهشي هكذا..
صحيح أنك خدعتيني بحقيقة عمرك كي تحصلي على دور البطولة حينذاك، ولكنك لم تعودي صغيرة كما كنتِ.
لن تخدعي أحداً كما فعلت سابقاً”.

نظرت إليه غير مصدقة أنه خدعها مرة أخرى وحطم غرورها.
ألهذا فقط دعاها ؟!، أهذا هو السبب حقاً ؟!
وهي التي كانت تظن أنه اشتاق إليها بعد كل هذه السنين وقرر أن يعوضها عما فعل.
ازدادت دهشتها أضعافاً حينما وجدت الجميع يقبلون عليه مرحبين ومهنئين، يحتفون بالوافدة الجديدة ويعلنون الولاء والطاعة لسيدها
بدا لها أن بعض الأمور لا تتغير مهما حدث..
حتى (نادية) التي لم تتفوه بكلمة، طوال الوقت، اقتربت تهنئ الفتاة وتقبلها بابتسامة واسعة.
تأملت وجوههم باشمئزاز، قبل أن تنهض بصعوبةٍ تهتف بداخلها في مرارة : تباً لكم جميعاً .
أهذه هي الدنيا؟!
أهكذا هم الناس؟!
ليت هناك من يأخذني ليعيدني إلى حياتي السابقة.
ليتني ما تركتك أبداً يا (صلاح).

خرجت من ذلك العالم وحدها دون صيادٍ أو فاعل خير وقد قررت أن تبحث عن خطيبها السابق ..
الرجل الوحيد الذي أحبها بصدقٍ دون أي غرض .
رحلت دون أن تلتفت خلفها وقد أدركت أنها ستظل دائماً في الحب ساذجة مهما طال بها العمر.
مهما أخفت مشاعرها خلف ذلك القناع الذي ارتدته، وتلك الشرنقة التي أحاطت بها قلبها منذ أن خدعها الصياد.
ستظل دائماً في نفسها مجرد طفلةٍ صغيرة..
“صغيرةٌ على الحب”.

طالع المزيد:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى