محمد قدرى حلاوة يكتب: أبيض وأسود

سردية بيان

كان يجول الشاطئ كل صباح بملابسه البيضاء المميزة معتمرا قبعة ” برنيطة” عريضة ويخطو حافي القدمين يزيح بقدميه العارية أثقال الرمال وأثقال الحياة حاملا كاميرته الكبيرة على كتفيه في حقيبة جلدية باهتة… ” عم جمال” كان وجوده طقسا مميزا لا يكتمل بغيره غبطة وبهجة الشاطئ والمصيف.. وكانت صوره ” الأبيض والأسود” وظلت تمثل بتواريخها المكتوبة في الخلف على صفحتها البيضاء تاريخا شخصيا ومشوار عمر إمتد طويلا وشارف على إنطفاؤه.. وماضيا تليدا معبقا برحيق الذكرى والأيام الخوالي والبدايات التي لا تزاول البال كل حين وآن و لا تبرحه ولا تبهت ولا تفارقه..

كان” عم جمال ” مبتسما دائما.. عذب اللسان.. يرتدي نظارة شمسية عريضة طغت على ملامحه.. مع الوقت صار يعرفنا بأسمائنا.. كان يجول طوال نهار الصيف الطويل من شاطئ ” ستانلي” وحتى شاطئ ” ميامي” على قدميه العاريتين.. ياله من رجل ذو ذاكرة فولاذية حتى يتذكر كل تلك الأسماء.. وكانت صور ” عم جمال” طقسا سنويا تحرص عليه العائلة.. كنا نأخذ بضعة صور جماعية وفردية.. ويقوم ” عم جمال” بضبط مكان الصورة ” الكادر” والإشارة بيده للإستعداد للحظة الإلتقاط قائلا:” واحد.. إتنين.. تلاتة” ثم يلتقط الصورة الموعودة والتي يستلمها المرء بعد يوم أو يومين من اللهفة والإنتظار…

كان ” لعم جمال” ” أستوديو” متواضع في ” بحري” يمكنك أن تذهب صباح اليوم التالي لإستلام صورك إذا كنت مسافرا أو في عجلة من أمرك.. قادتني الصدفة مرة إلى هناك.. كان” الأستوديو” عبارة عن حانوت صغيرا للغاية.. مقسم إلى شطرين.. شطرا لإستقبال الزبائن.. وقد غطت جدرانه صورا لنجوم هذا الزمان.. كانت صورا غاية في الإبداع والروعة ” عبد الحليم حافظ”.. ” مريم فخر الدين” ” سعاد حسني” ” نادية لطفي”.. يتوسط هذا القسم مكتبا صغيرا تحت زجاجه عشرات الصور لمختلف الوجوه بذات الإبداع.. أما ” فاترينة” العرض الصغيرة على باب المحل فقد إزدانت بصور ” الأفراح” و ” المواليد الجدد”.. القسم الآخر من الحانوت كان معزولا” بستارة ” كثيفة مسدلة.. وخصصه” لتحميض” الأفلام وتصوير الراغبين.. كنت أشعر أنني قد دخلت معرضا فنيا باهرا.. أو دلفت إلى خبيئة وكنز في مغارة مجهولة..و لأول مرة أرى عيني ” عم جمال” المجهدة والمكللة بالسواد.. بعد أن خلع نظارته الشمسية العريضة..

كانت صور ” عم جمال ” ناطقة بالحبور والبهجة والحياة.. رغم أنها كانت كلها ” بالأبيض والأسود” إلا أن ظلالها ودرجات لونيها مختارة ببراعة تشعرك بأن الأشخاص يتحركون بداخلها .. كلما قلبتها بين يدي شممت رائحة البحر وسمعت صوت موجه مختلطا بأصوات البشر والضحكات.. إستعدت فيها وإقتنصت لحظات من الزمن وكلمات أفلتت من قبضته ومن النسيان وأحكامه.. لحظات تظل باقية نقتات عليها ونستعين بها على تخطي واقعنا والمضي في سبيل أيام قادمة نجهلها ونخشي منها..

بعد سنوات ظهرت كاميرات ” البولارايد” تلك التي تستخرج لك الصورة في لحظتها وبالألوان دونما إنتظار وترقب.. كبر ” عم جمال” وضاقت مساحة حركته حيث كان يقطع على قدميه نصف مساحة الإسكندرية كل يوم.. وظهرت الكاميرات الحديثة وأجهزة الحاسب الآلي والهواتف المحمولة.. ومضت مهنة ” عم جمال” إلى الإندثار والنسيان..ربما واصل نضاله وقد يكون كف عنه مستسلما للواقع.. لكنه و بالتأكيد قد منحنا لحظات وذكريات تسكن داخلنا وتحتوينا ولها مكانة وقداسة.. لا تبرح ولا تبلي.. ضد النسيان.. صادقة لا تزيفها الألوان.. أبيض وأسود.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى