د. قاسم المحبشى يكتب: في سؤال الذاكرة ومداراتها الجدلية

بيان

ينفتح سؤال الذاكرة على مدى متزايد الاتساع من المفاهيم والآفاق، إذ تبين لي وأنا أعيد القراءة في المفهوم ومعناها أنه شديد الاتصال والتداخل بسلسلة كاملة من المفاهيم الهامة منها ( ذاكرة ، تذكرة ، مفكرة، عقل ، لغة ، هوية، زمان، مكان ، تاريخ ، سرد، رواية، تُمثل، تُذكر، تداعي ، الصورة، الحفظ ، الخزن، المعرفة الخيال ، النسيان، الزمان، التوقع، الحنين، الندم، الصفح ، الغفران الحضور الغياب الخ).

وربما كان سؤال الذاكرة في عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي يمتلك راهنة جديدة بعكس ما كان عليه في الأزمة الماضية حينما كانت تقنيات الذاكرة والتذكر محدودة بلغة الجسد والاستجابة السحرية اللاهوتية لمقاومة الفناء ف تحنيط الجسد يمثل محاولة للإبقاء على الذات الجسدية كأداة لاستدعاء الشخص، وهويته، وربما حتى روحه.

فالمومياء ليست جسداً ميتاً فحسب، بل هي مستودع للهوية، ملفوف بذاكرة طقسية ودينية، تحاول ربط الحياة بالموت، والزمن بالأبدية وبهذا المعنى من المهم اعادة النظر لمعنى الذاكرة ووظيفتها الميتافيزيقية فالأهرامات ليست مجرد مقابر ملكية، بل هي تعبير مادي ضخم عن الرغبة في البقاء – ليس فقط الجسدي، بل الرمزي أيضاً.

إنها نصب تذكارية للسلطة، والهوية، والخلود، ومشروع هندسي هدفه تحدي الزمن والنسيان.

بهذا المعنى، فهي ذاكرة مصنوعة من الحجر، تقول: “نحن هنا، كنا هنا، وسنبقى” وكذلك كانت الصروح الأثرية القديمة ولا زال الناس يستخدمون النصب التذكارية بالمعنى ذاته.
” لقد كان تحويل الأجسام الميّتة إلى مومياء من أجل ضمان خلودها هو أقدم تقنيات الذاكرة كما ظهرت في مصر القديمة كأقدم الحضارات التي اخترعت الكتابة والفنون والأساطير والآلهة.

أمّا اليوم فأسئلة الذاكرة قد غيّرت من مفرداتها : سيكون السؤال عندئذ هو “كم عدد الجيجاوات (GO) لبطاقة الذاكرة الرقمية لحاسوبك؟ “. بحيث كلّ وله طاقته الرقمية على تخزين المعطيات داخل عقل رقمي، لم نعد نحتاج إلى حمله داخل أدمغتنا بل منحناه للحاسوب كجزء جوهري من هوياتنا ما بعد الرقمية” فما هي الذاكرة؟ وما علاقتها بالزمان والتاريخ واللغة والهوية؟ وما الفرق بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية؟.

كما هو واضح إن موضوع الذاكرة يقع في صميم انشغال عدد من انساق المعرفة العلمية ( علم النفس، التاريخ، الفلسفة، الأنثروبولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الدراسات الثقافية والدين وغيرها) ففي القرآن الكريم وردت الكلمة ( ذاكرة، ذكر، تذكير ، وما شابه ٢٦٨ مرة بتنويعات مختلفة منها:
( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات:55) ( فاذكروني أذكركم} (البقرة:152) ( واذكروا نعمة الله عليكم} (آل عمران:10 ‎: ( فذكر إنما أنت مذكر) وغيرها وفي الثقافة الشعبية تستخدم رمزية الذاكرة بصياغات كثيرة منها : من تذكر ما تعثر! النسيان نعمة، والتذكّر حكمة! من نسي قديمه تاه! من لا يتذكر، يكرر الخطأ مرتين! اذكر المعروف، ولو بعد حين!.

وفلان عنده ذاكرة سمكة! وذاكرة التاريخ التي لا ترحم. وفي كل ثقافات الشعوب هناك استخدامات متشابهة للذاكرة والتذكر.

وقد كانت الذاكرة منذ أقدم العصور موضوعا للتأمل الفلسفي والبحث العلمي ولازالت حتى اليوم ورغم إنها تتصل بحياة كل إنسان عاقل إلا انه يندر التوقف والتساؤل بشأنها وموقف معظمنا حينما نواجه سؤال ماهي الذاكرة؟، أنني اعرفها ولا اعرف ماهي على وجه التحديد!.
فما هي الذاكرة التي بدونها يستحيل التواصل بين الناس؟ وما علاقتها بالتاريخ والهوية والفن والخيال والنسيان؟ وهل يمكن التمييز بين ذاكرة فردية وذاكرة جمعية؟.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى