د. محمد إبراهيم بسيوني يكتب: الدين والإعلام فى السوبر ماركت

بيان
(1)
الدين في حقيقته ليس مجرد ممارسة فردية، بل منظومة قيمية ورمزية تحكم وجدان المجتمعات.
والسياسة، مهما حاولت الانفصال عن الدين شكليًا، تجد نفسها مضطرة للاستفادة من حضوره حين يتعلق الأمر بتثبيت الشرعية أو كسب التأييد الشعبي أو بناء الجسور بين الشعوب، وهذا يثبت أن الفصل الصارم بين الدين والسياسة أقرب إلى النظرية منه إلى الواقع.
فالدين لا يزال يلعب دورًا مركزيًا في توجيه السياسات، حتى في الدول التي ترفع شعار العلمانية، وحضور هذا العدد الكبير من قادة الدول لجنازة البابا ليس مجرد احترام لشخصية دينية، بل هو تعبير عن إدراك عميق لقوة الرمزية الدينية في تشكيل العلاقات الدولية والتأثير في الشعوب.
ما يطرحه الدكتور سعد الدين الهلالي من دعوة لـ”عرض كل الآراء وترك الناس يختارون” يبدو في ظاهره دعوة إلى الحرية، لكنه في حقيقته تنازل خطير عن دور العالم في تمييز الحق من الباطل، والراجح من الشاذ، وتحويل الدين إلى “قائمة خيارات” بلا توجيه ولا ميزان.
الفقه ليس سوبر ماركت، والعلم الشرعي ليس نشرات تعريفية.
العالِم ليس مجرد ناقل للآراء، بل مؤتمن على تمييز الصحيح من الفاسد، والراشد من المنحرف.
حين يترك الناس لاختيار أي قول دون ترجيح علمي، فهو يفتح الباب للفوضى، وتفكك المعايير، وتحويل الشريعة إلى أهواء.
والمشكلة الأكبر أن الدكتور الهلالي لا يعرض “جميع الآراء” فعلاً، بل ينتقي ما يوافق المزاج العام أو يُحدث ضجة، ويُغيب أقوال جمهور العلماء الراسخين التي تمثّل الاجتهاد المنضبط على مدى قرون.
نعم، لا وصاية على الناس، لكن لا مساواة بين رأي إمام مجتهد ورأي شاذ مهجور. الحرية الحقيقية تكون في الحق المُعلل، لا في الحيرة المقنّعة. ومهمة العالم الأمين ليست نشر كل ما قيل، بل بيان ما يصحّ وما لا يصح، وتحمل مسؤولية الكلمة أمام الله والناس.
(2)
أزمة عميقة في البوصلة المجتمعية التي كانت سابقاً تضبطها المرجعيات العلمية والدينية والفكرية، لكنها اليوم تُهمَّش لصالح شخصيات إعلامية تستثمر في العاطفة لا في الوعي.
ما ذكرته عن انجذاب بعض الفتيات – أو حتى الشباب – إلى خطابات عاطفية سطحية ليس مستغرَباً في ظل تراجع منظومات التربية والقدوة الحقيقية، وغياب إعلام يقدّم مضموناً ناضجاً ومحترماً.
الإشكال لا يقف عند حدود شخص بعينه كـ”أسامة منير”، بل هو رمز لظاهرة أوسع: ظاهرة تحويل الإعلام إلى أداة ترفيه وتسطيح بدلاً من أن يكون منصة تثقيف وتنوير.
ومشكلة الجهل بالمعلومات الأساسية – كعدد ولايات أمريكا – تعكس اتساع الفجوة بين “الشكل الإعلامي” و”المضمون المعرفي”.
واقعًا مؤلمًا تعيشه مجتمعاتنا، حيث اختل ميزان التأثير، فتقدمت الأصوات السطحية وتوارى أصحاب العلم والفكر والأخلاق، إما بسبب التهميش الإعلامي، أو بسبب صمتهم أمام موجات التفاهة التي صنعتها الشاشات.
حين تصبح أزمة الفتاة العاطفية سلعة إعلامية تُعالج بكلام معسول لا يستند إلى علم ولا دين، فاعلم أن المجتمع يتجه نحو هوّة عميقة من الفراغ القيمي.
وأسامة منير وأمثاله ليسوا السبب بقدر ما هم نتيجة لهذا الفراغ، فهم ببساطة يملؤون مساحة تُركت خالية بعد تهميش العلماء، وتغييب الأصوات الناضجة، ومحاربة كل من يحاول أن يتكلم بعقل ومسؤولية.
الحل لا يكون بالسخرية من أمثالهم فقط، بل ببناء بدائل حقيقية: إعلام يحترم عقل الناس، خطاب ديني متزن قريب من الناس، ومفكرون يُمنَحون المساحة لاجتراح الحلول لا لمجرد التنظير.
اقرأ أيضا:
د. محمد إبراهيم بسيوني يكتب: كم ينفق المصريون والعرب على “البوتوكس والفيلر”