عبدالحليم قنديل يكتب: “إسرائيل” فى حساب التاريخ

بيان
كثيرا ما نضيع فى زحام التفاصيل ، ولا ننصت بما فيه الكفاية إلى صوت التاريخ ، وبالحساب الميلادى ، يعبر كيان الاحتلال “الإسرائيلى” لفلسطين إلى عامه الثامن والسبعين اليوم ، وتسمع من يبشرون ويهللون ويراهنون ـ ربما للمرة الألف ـ على تصفية القضية الفلسطينية ونهاية حلم التحرير الفلسطينى ، وتنظر حولك ، فترى ما قد يصدق ويسوغ هذه الأقوال الشائهة ، ترى “غزة” تحت النار والذبح والتجويع والإبادة على مدى عشرين شهرا مضت ، وترى الضم والاستيلاء الاستيطانى المتوحش عنوانا على ما جرى ويجرى فى الضفة الغربية بعد تهويد القدس ، وترى الواجهات والرايات الفلسطينية ممزقة تائهة ، وترى قوة الاحتلال تزحف إلى سوريا بعد لبنان ، وترى الأغنياء فى أحوال “هوجة” و”زيطة” ، يضعون تريليونات الدولارات تحت أقدام مسيحهم المخلص “دونالد ترامب” ، الذى يضحك فى وجوههم وعلى الأقفية ، ولا يكاد اسم فلسطين يجرى على لسانه ، إلا من باب التندر والتأنيب ، بينما يدعو حوارييه إلى نسيان أو تناسى القصة كلها ، والتفرغ لسلام ورخاء موهوم ، تأتى به الحماية والرعاية الأمريكية ، التى قد تختلف مع حكومة “بنيامين نتنياهو” فى تفاصيل تكتيكية عابرة ، بينما تبقى عينها الأوسع ساهرة على دعم حركة التوسع “الإسرائيلى” إلى غير ما حدود ، و “ترامب” هو الذى قال مبكرا ، أن مساحة هذه “الإسرائيل” صغيرة جدا ، ولا بد من توسيعها ، وأن المستقبل الأفضل للفلسطينيين فى تهجيرهم إلى أوطان قريبة وبعيدة ، وأن “إسرائيل” ارتكبت خطأ عمرها ـ زمن “شارون” ـ بترك “غزة” ، المثالية فى رأيه لبناء عقارات جميلة و”ريفيرا” أجمل على شاطئ البحر المتوسط .
وقد تجرى تسويات موقوتة ، من نوع وقف إطلاق نار قصير المدى مقابل الإفراج عن بعض الرهائن “الإسرائيليين” ، لكنها لا تحول أبدا دون تجدد حرب الإبادة فى “غزة” ، ولا دون زحف “عربات جدعون” ودبابات “إسرائيل” إلى إعادة احتلال “غزة” بكاملها ، ولا دون عمليات الضم الفعلى فى الضفة الغربية ، ومن دون أى معارضة تذكر من “ترامب” ، ولا من الإدارة الأمريكية اليهودية الصهيونية بالكامل ، فقد يتضايق “ترامب” من عنجهية “نتنياهو” ، وقد يرى أنه ـ أى “نتنياهو” ـ يتجاوز دوره المرسوم فى اللعبة ، ويتصور أنه صانع القرار الأصلى فى مصالح ومستقبل “إسرائيل” ، بينما الدور الأعلى ، يجب أن يظل محجوزا للرئيس الأمريكى وإدارته ، التى هى حكومة “إسرائيل” فى واشنطن ، التى ينبغى لحكومة “إسرائيل” فى تل أبيب ، أن تنتظر منها الأوامر والتوجيهات والأضواء الخضراء والحمراء ، وقد تلاحظ أن “ترامب” لم يذكر “إسرائيل” علنا بحرف لوم أو بشبهة غضب ، ولا حتى ذكر “نتنياهو” القلق من تحركات “ترامب” وقراراته الأخيرة بصدد إيران واليمن ، ونسب الحرب الوحشية فى “غزة” إلى “حماس” وأخواتها من فصائل المقاومة الفلسطينية ، وإن أشاد ببادرة “حسن نية” من “حماس” بإطلاقها سراح “عيدان ألكسندر” الجندى “الإسرائيلى” ذى الجنسية الأمريكية ، ربما على أمل أن تستمع “حماس” لباقى نصائحه ، وأولها أن تنزع سلاحها بنفسها ، وألا تكون عائقا أمام خطة تهجير ملايين الفلسطينيين من “غزة” ، والمعنى ببساطة ، أن “ترامب” لم يكن يؤدى عملا مسرحيا متفقا عليه مع “نتنياهو” فى الأيام والأسابيع الأخيرة ، بل كان يتحرك فى مساحات خلاف تكتيكى ، ويريد أن يضع “نتنياهو” فى مكانه تابعا لا آمرا ، وفى سياق توافق استراتيجى أشمل ، يعيد صياغة الاندماج الاستراتيجى بين أمريكا و”إسرائيل” ، ويتيح له مقعد القيادة وحرية التصرف فى الملفات المطروحة ، حتى لو تأففت حكومة “نتنياهو” و”بن غفير” و”سموتريتش” ، ولا يلزم نفسه بغير المصالح العليا لكيان الاحتلال نفسه ، وفى كل المراحل الأمريكية ، كانت تثور أحيانا خلافات تكتيكية بين الرؤساء الأمريكيين ورؤساء الوزارات فى “إسرائيل” ، وكانت تختتم دائما بتأكيد أولوية مصالح “إسرائيل” البقرة المقدسة ، على نحو ماجرى ـ مثلا ـ بين “جورج بوش” الأب و”إسحق شامير” عشية مباحثات مدريد ، ثم بين “باراك أوباما” و”بنيامين نتنياهو” نفسه ، وكان “أوباما” يضيق كثيرا بعجرفة “نتنياهو” ، وبخطاب “نتنياهو” أمام الكونجرس الأمريكى رفضا للاتفاق النووى الإيرانى ، وعاقبه “أوباما” وقتها بامتناع عن التصويت فى مجلس الأمن ضد قرار بإدانة الاستيطان “الإسرائيلى” ، كان أوباما وقتها يودع عهده ذى الفترتين ، ولا يطمع فى رئاسة ثالثة لا يسمح بها العرف الأمريكى ، ورغم ذلك ، لم يترك البيت الأبيض دون توقيع أمر بإتاحة 38 مليار دولار إضافية لتسليح الكيان وضمان تفوقه الإجمالى على كافة الجيوش العربية (!) .
وبالجملة ، وبالنظر الأوسع لمسرى التاريخ الجارى ، فقد لا يصح أبدا تصور إمكان فك الصلة العضوية الوثقى بين أمريكا و”إسرائيل” ، ولم يكن ذلك غائبا فى أى وقت عن بال قادة التفكير وقادة الممارسة ، وبالذات منذ توارى دور “بريطانيا” المؤسسة لكيان الاحتلال ، ؤرفيقتها “فرنسا” المؤسسة للبرنامج النووى “الإسرائيلى” ، وحلول الدور الأمريكى فى مواجهة مد التحرر العربى القومى فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، كان المفكر القومى الناصرى “جمال حمدان” ، يربط فيما كتب بين زوال “إسرائيل” ونهاية الهيمنة الكونية الأمريكية ، وكان جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967 بالذات ، يقول دائما أن إسرائيل هى أمريكا ، ومات واقفا على الجبهة الحربية فى سياق ما أسماه وقتها مرحلة إزالة آثار العدوان ، وفى المحاضر السرية لاجتماعاته القيادية منذ عدوان 1967 حتى ساعة رحيله ، كان عبد الناصر يصوغ من قلب المعاناة تصورا أو خطة تاريخية لحلم تحرير فلسطين ، كان العاجل فيها إزالة آثار عدوان 1967 ، بينما بلور الآجل فى خطوط تاريخية عامة ، كان العنصر الأول فيها ، أن تواصل مصر بالذات تطورها الطفرى فى مجالات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى ، وأن يجرى ردم الفجوة بيننا وبين الغرب ، الذى تعد “إسرائيل” قطعة منه ، وأن تدمج خطط تصنيع السلاح المتطور وحتى القنابل الذرية ، وكانت مصر وقعت بالأحرف الأولى على معاهدة منع الانتشار النووى فى يناير 1968 ، ولم يكن التوقيع وقتها ملزما كونه بالأحرف الأولى ، وجاءت عبد الناصر وقتها تقارير عن صناعة “إسرائيل” لأول رأس ذرى ، وهو ما دفعه لإعادة طرح تطوير مشروع مصر النووى الذى بدأ مبكرا ، وفى المحضر السرى لاجتماع مجلس الوزراء برئاسته فى 13 نوفمبر 1968 ، قال عبد الناصر نصا “إزاى نمشى فى الطاقة الذرية ، وبحيث نكون جاهزين فى أى وقت ، ونعمل reactor مفاعل بنفسنا علشان نطلع البلوتونيوم (…) نمشى فى سكة نعتمد فيها على نفسنا” ، وتطرق عبد الناصر فى الاجتماع نفسه إلى تفاصيل أخرى غير تخصيب اليورانيوم (نطلع البلوتونيوم) ، من نوع الاعتماد على ما أسماه “المخابرات العلمية” ونقل التصميمات فى الصواريخ وغيرها ، لم يكن يفكر فقط فى المدى المباشر وتحرير سيناء وغيرها ، بل كان يتطلع لما هو أبعد ، ويدمج قضية التحرير النهائى لفلسطين فى صلب عملية التقدم الطفرى علميا وصناعيا ، ثم كانت رؤيته للمشهد الدولى ظاهرة فى تصور الحروب الأخيرة لتحرير فلسطين ، كان يقول بوضوح أننا لن نستطيع خوضها بنجاح ، إلا حين تكون أمريكا متراجعة و”ملخومة” بالتعبير العامى ، فقد كان ربطه مباشرا صعودا ونزولا بين نفوذ أمريكا الكونى ووجود كيان الاحتلال ، وإضافة للعنصرين البارزين : التقدم العلمى وتراجع نفوذ أمريكا الكونى ، كان عبد الناصر يتحدث عن العنصر الثالث المطروح على الدوام ، وهو المقاومة الفلسطينية والمقاطعة العربية لكيان الاحتلال ، كان يقول عن المقاومة الفلسطينية أنها ولدت لتبقى و”سوف تبقى وتنتصر” ، وكان يعد المقاطعة ضرورة دائمة ، ويعتبرها تطبيقا لنظرية “السنطة وشعرة ذيل الحصان” فى الريف المصرى ، “السنطة” نتوء على سطح الجلد ، وكانت الخبرة المصرية الشعبية فى معالجته والتخلص منه ، أن يجرى شد شعرة من ذيل الحصان حول “السنطة” ، تحبس عنها الدم فتسقط من تلقاء ذاتها ، وكان عبد الناصر يقول أن هدف العدو هو إرغامنا على توقيع “اتفاق صلح” و”معاهدة سلام” ، وهو ما لن يحدث إلا حين تتغير وتسقط الأنظمة العربية المتحدية ، وهو ماجرى تباعا بعد رحيل عبد الناصر ، والانقلاب على اختياراته عقب حرب 1973 ، وإلى اليوم .
نعم ، ذهب عصر عبد الناصر وصحبه ، وجاء عصر الهوان العربى ، والدفع لأمريكا لتدفع بدورها إلى “إسرائيل” ، سقطت المقاطعة ، لكن المقاومة بقيت وتطورت ، وستبقى وتتطور رغم تبدلات الخرائط ، وقد بتنا على عتبة عالم جديد متعدد الأقطاب ، تتراجع فيه سطوة أمريكا الكونية ، ويتجدد فيه أمل تحرير فلسطين ، رغم المجازر والتجويع والإبادات ، وربما لا تكمل “إسرائيل” عامها المئة احتلالا وتمكينا ، وتلك قصة أخرى فى حساب التاريخ ، لا فى هوان اللحظة وتفاصيلها المذلة .