د. ناجح إبراهيم يكتب: زيارة منزلية

بيان

من كلمات د. ناجح إبراهيم من مقال: ” زيارة منزلية ” وتم نشره في جريدة “الوطن”:
– حدثتني تليفونياً راجية مني قبول زيارة طبية منزلية لها، وافقت ، أرسلت لي فتاة صغيرة لا تجاوز الرابعة عشر من عمرها اصطحبتني لمنزلها، استغربت أنها لم ترسل رجلاً أو سيدة كبيرة ولكن زال عجبي حينما عاينت أمر السيدة.
– المنزل يقع في حي عشوائي في حارة ضيقة سد فتحتها علي الشارع الرئيسي بائع متجول لا يعرف شيئا عن الذوق والتحضر ، دخلت المنزل فوجدته بائسا، والسيدة تسكن وحدها في الدور الأرضي في غرفة وحمام وصالة صغيرة ، وجدتها مصابة بشلل أطفال قديم في ساقيها يحول بينها وبين الحركة فهي قعيدة الفراش، وجدتها تعاني من قرح فراش بسيطة مع التهاب جلدي بين الثنيات، طمأنتها ببساطة حالتها، عرفت من بين ثنايا حديثها أنها لم تنجب طوال مسيرة حياتها وأنها صابرة علي هذا الابتلاء وأن زوجها مات منذ سنوات ، وكأنها تجيب علي استغرابي لعدم وجود أحد معها سوى هذه الفتاة الصغيرة .
– وجدت الفتاة الصغيرة نشطة جداً تساعدها بهمة في كل شيء أثناء الفحص، وتفعل ذلك بأدب وخلق وتحضر، أعجبتني طريقتها رغم صغر سنها.
– بادرتني قائلة: هذه الفتاة أكثر من ابنة لي، وأمها كأنها أختي التي لم تلدها أمي ، هما يصنعان لي كل شيء .
– شكرت الفتاة وسألتها عن مدرستها ودراستها فجاءتني الصدمة الثالثة حيث أخبرتني أن أهلها أخرجوها من المدرسة لضيق ذات اليد، حزنت أن يحرم هذا العقل الكبير رغم سنها الصغير من التعليم والرقي العلمي رغم ذكائها وتحضرها.
– وجدت في هذه الفتاة همة كبيرة في خدمة هذه السيدة لم أجدها في فتيات كثيرات مع أمهاتهن ،فأحيانا أقوم بفحص أم عجوز لا تقدر علي مرونة الحركة وابنتها جالسة تنظر في تليفونها ولولا استدعاء الممرضة ما استطعنا فحصها.
– شرحت للسيدة حاجتها إلي مرتبة هوائية لأن هذه المرتبة كأنها تقوم بتطبيق قوله تعالي “وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ” وذلك عن طريق خراطيم تنتفخ وأخرى تنبسط عن طريق موتور صغير يضخ الهواء في هذه ويطردها من تلك فتقلب المريض باستمرار.
– مريضتي البسيطة ظنت المرتبة عالية لا تستطيع الوصول إليها فأفهمتها أنها مرتبة عادية وليست سميكة ومثل أي مرتبة، فاستراحت لذلك، كان معها مبلغ الفحص فأعدته لها بعد أن جعلت جزء منه لهذه الفتاة الصغيرة التي سعدت بهذا المبلغ الذي لم تتوقعه.
– الغريب أنني في اليوم السابق للزيارة فحصت فتاة جامعية لا تتمتع بأي قدر من الحكمة مع رعونة ظاهرة ومعاملة قاسية مع أمها والجميع، قارنت بين هذه وتلك ، وأدركت أن الحكمة والعقل هبة ربانية يمنحها الله لمن شاء من عباده ، وخلصت من بين ما خلصت إليه في حياتي أن أهم ما يميز الإنسان عامة والمرأة خاصة الحكمة والعقل وحب الخير ” يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ” ، وخلصت أن الحكمة ليست قاصرة علي المؤمنين أو المسلمين أو المتعلمين أو خريجي الجامعات أو المتدينين، ولكنها هبة ربانية تتوارث عبر الجينات ويدعمها أو يدمرها المجتمع الذي تعيش فيه، فهناك بيئة ترعى الحكمة وتقويها وتشد أزرها، وهناك أخرى تعطلها وتدمرها.
– فرحت السيدة بصنيعي الذي لم تتوقعه ، فالله أعلم كيف دبرت مبلغ الفحص المنزلي.
– وعدتها بالبحث عن مرتبة هوائية عند أهل الخير وصناع المعروف وكذلك كرسي متحرك بعد أن أظهرت بحياء حاجتها إليه.
– تفكرت في أمر هذه السيدة المعوقة وأمر جارتها وابنتها الفتاة الصغيرة ، وخلصت إلي الحقيقة التي وصلت إليها منذ زمن طويل وهو أن أفضل ما في الشعب المصري التكاتف الاجتماعي والإنساني وخاصة بين النساء والجيران.
– أما الحقيقة الأخرى فهي أن الله لا يسلب من أحد نعمة إلا ويسخر له من يخدمه ويرعاه، وقد كان معنا أخ معتقل يتيم الأب فسخر الله له شقيقه يسأل عنه حتى إذا سئم من ذلك ساق الله له قريباً مسنا من القاهرة يسأل عنه ويزوره بانتظام، وبعدها حدث تشديد في الزيارات فلم يسمحوا إلا بأقارب الدرجة الأولى، فساق الله له فتاة مكافحة قبلت زواجه وظلت تزوره حتى خرج من المعتقل .
– وكان هناك أخ عنده شلل نصفي كان يرعاه ستة معتقلين بينهم أطباء وخريجي جامعة يصنعون له كل شيء من الاستحمام والطعام وعلاج القرح حتى غسل ملابسه.
– لن يحرم الله أحدا من شيء حتى يعوضه بأضعاف ما فقده شريطة أن يصبر ويصابر ويرضى عن أقدار الله، تحية للصابرين “فالصبر ضياء” يضيء للمكروب ظلمات المحنة.

اقرأ ايضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى