شهادة تختزل مأساة شعب ووقاحة محتل: قناص إسرائيلي يروي جرائمه في غزة

كتب: أشرف التهامي

في سرديةٍ تحمل نبرة التباهي وتفتقر لأي حس بالندم، كشف قنّاص إسرائيلي يُدعى “تومر” – وهو اسم مستعار لرقيب في لواء جفعاتي – عن أنه قتل 27 فلسطينيًا من مقاتلي المقاومة خلال عدوان الاحتلال المستمر منذ خمسة أشهر على قطاع غزة، وذلك في مقابلة مع وسائل إعلام إسرائيلية.

الرواية التي جاءت على لسان تومر تكشف حجم الوحشية التي تمارسها القوات الإسرائيلية، إذ يتحدث عن عمليات قتل “من مسافة بعيدة”، ويتفاخر بأن “الأجساد كانت تسقط تباعًا”. لكن خلف هذا الفخر، بدأ يتحدث لاحقًا عن آثار نفسية تُلاحقه بعد عودته من غزة، مشيرًا إلى أنه بات يشعر بعبء ثقيل خلف منظار بندقيته.

تومر، الذي تلقّى تدريبات متقدمة في القنص والتخفي وتقدير المسافات، كان أحد أعضاء كتيبة قنص خاصة.، وقد شارك في بطولة عسكرية قبل العدوان بأيام، لكن سرعان ما تحوّل مساره إلى المشاركة في أكثر المعارك دموية في كفر عزة، إحدى المستوطنات القريبة من القطاع.

تفاصيل ليلة السابع من أكتوبر

ويروي تومر تفاصيل ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث كان يقضي عطلة مع رفاقه في منطقة نهر الأردن. يتحدث عن لحظة التحوّل من أجواء العيد والاحتفال إلى أجواء الحرب الكاملة، التي نُقل خلالها جنوبًا، ليبدأ مباشرة المشاركة في القتال.

في وصفه لدخوله إلى كفر عزة، يُبرز مشاهد تقشعر لها الأبدان، لا سيما حين تحدث عن الجثث المنتشرة على الطرقات، والانفجارات المتتالية، والاشتباكات مع مقاومي حماس. يعترف تومر بوجود حالة صدمة في صفوف جنوده، إذ يصف كيف تجمّد أحدهم تحت القصف، فاضطر لتطبيق بروتوكولات “استعادة الوعي القتالي” عليه.

وفي حين قدّمت وسائل الإعلام العبرية هذه القصة على أنها بطولة فردية وجسارة مقاتل، إلا أن القراءة من منظور عربي تُظهر حجم القتل والدمار الذي يتعرض له المدنيون في غزة تحت غطاء ما تسميه إسرائيل “عمليات تطهير ضد حماس”. إذ تتزامن اعترافات تومر مع تقارير متكررة لمنظمات حقوق الإنسان تتحدث عن الاستخدام المفرط للقوة، وقنص المدنيين، وترويع السكان في القطاع، وارتكاب جرائم حرب.

اللافت أيضًا أن تومر يشير إلى “علامات X”، وهي رمز داخل الجيش الإسرائيلي لعمليات القتل المؤكدة، بما يعكس طريقة تحول عمليات القتل إلى “حصيلة رقمية” تُحتسب في سجل الجندي، وسط تغييب كامل لأرواح الضحايا وإنسانيتهم.

في نهاية هذه الرواية، يظهر القنّاص، الذي اعتاد القتل من خلف المنظار، مُثقلًا بتبعات نفسية، لكن دون أن يطرح تساؤلًا أخلاقيًا واحدًا عن جدوى قتل أبناء شعب محاصر منذ سنوات، أو عن مستقبل هؤلاء الذين سقطوا تحت رصاص بندقيته.

رواية جندي احتلال: من كفار عزة إلى بيت لاهيا 

في روايته المطولة، يحكي أحد جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تجربته في اقتحام كيبوتس كفار عزة، متحدثًا عن “حذر” أثناء دخول البيوت لأنه لا يعرف إن كان بها “مدنيون”، وكأن هذا الحذر يشفع لجيش اعتدى على قطاع محاصر منذ سنوات، وقصف أحياءً سكنية عن بكرة أبيها.

يروي الجندي كيف كان يدخل كل بيت ببطء، يرى “برك دماء”، و”جثثًا”، ثم يبرر تأخره في إطلاق النار على من فيه لأنه “خائف على المدنيين”، في مفارقة مؤلمة حين يعلم العالم كله أن قواته قتلت الآلاف من المدنيين في غزة في ذات العدوان، بينهم مئات الأطفال.

ثم ينقل رواية تتشح بعبارات “الإنسانية الانتقائية”، حين يتحدث عن إجلاء “مدنيين” إسرائيليين من مساكن كيبوتس كفار عزة، قائلاً إنه شعر بالفخر وهو “يحمي” جدة وطفلين – متناسياً أن جيشه في نفس الوقت كان يقصف أبراج غزة ويسوي منازل الفلسطينيين بالأرض، ويترك آلاف الجدات والأطفال تحت الأنقاض دون مغيث.

ورغم حديثه عن التعب، والنوم على الأرض، و”فقدان الإحساس بالزمن”، لم يذكر لحظة واحدة أنه كان على أرض ليست أرضه، ينفذ أوامر احتلال عسكري يدكّ المناطق المدنية. كان يصور نفسه ضحية، رغم أنه المعتدي.

ويصف كيف تمركز في ناقلة جند مدرعة لمدة 11 يومًا، لا يخرج منها، فقط يراقب عبر الكاميرات منازل غزة المدمرة، ويقرأ الكتب، بينما على بُعد أمتار كانت عشرات العائلات الفلسطينية تعيش تحت الرعب أو الدمار أو الموت.

وفي مشهد آخر، يتحدث عن إصابة صديقه، وعن صدمة بعض الجنود الذين لم يتحملوا رؤية ما جرى في كفار عزة. لكنه لا يتحدث أبدًا عن صدمة آلاف العائلات الفلسطينية التي فُجرت بيوتها وقتل أبناؤها في نفس الأيام.

ثم يأتي إلى لحظة “بطولته”، حين يصف كيف قتل أول فلسطيني، قناص كما يقول، استهدف دبابة الاحتلال. يصور مقتله وكأنه لحظة نصر، لا يمر عليه كإنسان له عائلة وقضية ووطن يدافع عنه من على أطلال مدرسة دمرها الاحتلال ذاته.

وفي نهاية الرواية، يقر هذا الجندي، رغم كل تبريراته، بأن كثيرًا من زملائه انهاروا نفسيًا، ولم يحتملوا الاستمرار. لكنه لا يُسائل أصل الحرب، ولا احتلاله، ولا المذابح التي يرتكبها جيشه. فقط ينهي كلامه بعبارة: “الحرب لعنة”، دون أن يعترف أن اللعنة الحقيقية هي استمرار احتلاله لشعب بأكمله.

في محيط مستشفى الشفاء: قناصة الموت ودماء الأبرياء

عند أحد محاور القتال حول مستشفى الشفاء، انتشرت وحدة من قناصة الاحتلال الإسرائيلي في مبنى مدرسي قريب، لا يبعد سوى مئات الأمتار عن المستشفى، الذي طالما شكل ملاذًا للمرضى والجرحى، لكنه بات الآن هدفًا عسكريًا بذريعة وجود مقاومين أو محتجزين بداخله.

نصبت قوات الاحتلال مواقع للقنص، مُهيّأة بدقة، حيث تحوّل هذا المحور إلى ممر موت، لا يُسمح لأي شخص بالعبور، مهما كانت صفته. مَن يظهر في المشهد يُعتبر هدفًا للقتل الفوري. هكذا، أصبحت مشاهد قتل الفلسطينيين “روتينًا يوميًا” في عيون الجنود، الذين يطلقون الرصاص على كل متحرّك بلا تردد، ثم يسجلون التفاصيل وكأنها لعبة صيد. الجنود أنفسهم اعترفوا بأن الشارع امتلأ بالجثث، وأن كل من سقط كان لا يزال متمسكًا بسلاحه. لا أحد يراجع إذا كان ما شاهده سلاحًا حقيقًا أم وهماً ناتجًا عن ذعر القاتل.

وذات يوم، دخل رجلان الممر—أحدهما يدفع الآخر على كرسيٍّ متحرّك. لم يكن هناك تأكيد أنهما من المقاومة، لكن قرار القتل اتُّخذ مسبقًا. أُطلق النار على من كان يدفع الكرسي، وسقط قتيلًا. ثم أُعدم الرجل المقعد بمجرد رؤيته وهو يُخرج شيئًا من تحت البطانية، قيل إنه مسدس. لم يُمنح أي منهما فرصة الحياة، ولا حتى لحظة للتأكد. فقط الطلقة… ثم الصمت.

أول مرة شكّ أحد الجنود في ما فعله كانت بعد هذا الحادث. لكن الشك لم يكن إنسانيًا خالصًا بقدر ما كان ناتجًا عن اضطراب داخلي. فالقاتل بدأ ينهار نفسيًا، لا لأنه قتل مدنيًا ربما كان بريئًا، بل لأنه لم يعد قادرًا على النوم وسط مشاهد الدم التي تلاحقه.

وفي صباح اليوم التالي، ظهر رجل فلسطيني مسن يحمل عصا، فكان القرار هذه المرة بالتريث. لم يُطلقوا النار فورًا. لكن هذا المسن، تبين لاحقًا أنه “مُجاهد” وفق روايتهم، أضرم النار في مركبة وغادر المشهد. لم يُقتل لأنه لم يُكشف في الوقت المناسب. فقط هكذا تُدار حياة الناس وموتهم تحت نيران الاحتلال.

مراقبة السنوار: مطاردة رجل… وقتل عشرات

بعد أسابيع من الدم، جاءت الأوامر بإجراء عملية خاصة لملاحقة القيادي الفلسطيني يحيى السنوار. القوات الخاصة لم تكن متاحة، فأُسندت المهمة إلى وحدات قناصة جفعاتي، الذين تسللوا تحت جنح الظلام واحتلوا مبنى في غزة، مُحولين سطحه إلى منصة قنص.

قيل لهم: “انتظروا السنوار، لكن اقتلوا أي رجل مسلح يمر في محيطه، قد يكون هو متنكرًا”. وفعلًا، بدأت المجزرة. لم يأتِ السنوار، لكن الرجال المسلحين مروا واحدًا تلو الآخر، فصاروا أهدافًا متتالية للقناصة الذين راحوا يقتلون بلا تردد، وكأنهم ينفذون تجربة رماية.

لم تكن غزة ساحة معركة متكافئة، بل كانت مسرحًا لقتل مبرمج، تُرصد فيه الأرواح وتسقط بلا حساب. عشرات القتلى خلال ساعات. حتى أحد الجنود أحصى لنفسه 12 قتيلاً في تلك الليلة وحدها. لم يكن يهمّ من هؤلاء، بل كم عددهم.

وفي خضم هذا القتل، اكتشف الجنود وجود رجل وامرأتين في الطابق السفلي. لم يكن معلومًا إن كانوا مدنيين، لكن مجرد احتمال أنهم قد يكشفون الموقع جعل من وجودهم خطرًا. أُلقي القبض على الرجل بسرعة، فيما تم تجاهل مصير المرأتين.

الجنود يتصدّعون… ولكن بعد المجازر

الجنود الإسرائيليون، وبعد كل هذا القتل، بدأوا بالانهيار النفسي. بعضهم شبّه نفسه بـ”كريس كايل”، القناص الأمريكي الشهير، وبدأوا بحساب أرواح من قتلوهم، كما لو كانت نقاطًا في لعبة. أحدهم كتب أسماء ضحاياه على غلاف رواية باولو كويلو، وكأنها دفتر إنجازاته.

لكن الأرق والتعرق والكوابيس بدأت تتسلل إليهم. الذنب؟ ليس تمامًا. بل خلل نفسي ناتج عن التوتر، لا عن ندم حقيقي. لم يسألوا: “ماذا فعلنا بالفلسطينيين؟” بل: “ماذا فعل بنا هذا كله؟”

لقد كانت المجازر أكبر من قدرتهم على التحمل، لكنهم لم يشككوا في شرعيتها. فقط بدأوا يتساءلون: هل هذا كثير؟ هل ينبغي قتل الجميع بهذه الطريقة؟ هل يعقل أن أعود من الحرب شابًا عمره عشرون عامًا وقد قتلت 27 إنسانًا؟

في النهاية، لم يكن الجندي ضحية. بل كان قاتلًا بدأ ينهار من شدة الدم الذي سفكه، بعدما تيقن أن ما فعله لن يُمحى من ذاكرته ولا من ذاكرة شعب محاصر يدفن أبناءه تحت الركام كل يوم.

حينما يعود القاتل إلى نفسه

في لحظةٍ عبثية من “نيران صديقة”، أصيب أحد زملائي في غزة. كنت قائد الفريق الطبي، هرعت مع المسعف لإنقاذه. كان مطروحًا على الأرض، برصاصةٍ دخلت من ظهره وخرجت منه. لم يكن هناك نزيفٌ غزير، لكن جسده كان ساكنًا كأن الحياة قد غادرته. حملناه على النقالة وركضنا، نلهث من الخوف لا من الجهد. لكنه سقط من النقالة، وسط الذعر والعجز.

في تلك الليلة، تهتُ في داخلي. لماذا تأخرتُ في الوصول؟ لأنني توقفتُ لأرتدي واقيات الركبة. سؤالٌ سمِج ظل يطاردني: هل مات بسببي؟

وفي أحد أمسيات تل أبيب، كنت أتنقل بين حانات مكتظة بالضحك، بينما روحي لا تزال محتجزة في غزة. شعرتُ بالتمزق. كيف يحتفلون هناك بينما نحن غارقون في الوحل؟ ثم قلتُ لنفسي: نحن نحارب لأجل أن يبقوا هم في وهم “الحياة الطبيعية”. شعورٌ كاذب بالفخر تسلل إلى داخلي. لكن لحظة، عندما منعتني مضيفة نادٍ من الدخول، فقدتُ أعصابي. أخبرتها أنني “عدتُ لتوي من غزة”، لكنها نظرت إليّ كأي عابر سبيل. لا شيء في الداخل يستحق هذا الجنون.

في نهاية ذلك الأسبوع، كنتُ مجرد شبح لإنسان. لا أستطيع أن أشرح ما أشعر به، ولا حتى لنفسي. نوبات بكاء وهلع، وصراخ لا تفسير له. كنتُ أرى في كل شخص حولي “إرهابيًا”. حياتي انزلقت من بين يدي. فهمت أنني على شفا الجنون.

في محاولة يائسة، اتصلت بخط الجيش الساخن للصحة النفسية. أخبرتهم أنني “لا أستطيع العودة إلى غزة”. حجزوا لي موعدًا. شعرتُ بالعار. كأن الذهاب إلى أخصائية نفسية اعتراف بالهزيمة. لكن في لقائي الأول، قالت لي: “ما تمر به هو اضطراب ما بعد الصدمة.” هذه الجملة كسرت شيئًا بداخلي. لطالما اعتقدتُ أن هذا مجرد ضعف، ذريعة للهروب من الميدان.

عادت الذكريات، تسونامي من صور وأصوات. عجوز يركض، كرسي متحرك فيه رجل مسلح، طفل صغير يقتحم منظاري وأنا على وشك إطلاق النار على والده. كنت أتردد في كل مرة: أُطلق أم لا؟ القرار يعني حياةً أو موتًا — ليس فقط لهم، بل لي أيضًا.

كنتُ دائمًا صهيونيًا متحمسًا. رُبيتُ على أن من نواجههم “وحوش”. لكني إنسان. رأيتُ المسنات والأطفال في شوارع غزة. ليس تعاطفًا معهم كـ”عدو”، بل كأرواحٍ تشبه أرواحنا، بل ربما أطهر.

بعد جلسات العلاج، أُحلت إلى مركز معالجة ضغوط القتال (مالشا). مكثت هناك شهرًا ونصف قبل تسريحي. قضيتُ 26 شهرًا في الجيش من أصل 32. ومنذ خروجي، أحاول إنقاذ نفسي.

ربع أصدقائي أصيبوا. أحدهم أصيب برصاصة في الفك، وآخر في الرقبة، وآخر بشظية اخترقت صدره. كثيرون على الكراسي المتحركة. كثيرون بصدمات عقلية. كثيرون فقدوا أنفسهم، كما فقدتُ أنا نفسي.

أشعر بالفراغ، وكأن حياتي بلا معنى. لم أعد أسافر. لم أعد أشفى. وأدركت الحقيقة الموجعة: أنا مجرد طفل يهودي خُدِع. قاتلتُ في حرب كاذبة، باسم “شعبي”، بينما الحقيقة أنني كنت وقودًا لحرب دينية مختلقة، تقودها آلة عسكرية مجنونة تعتقد أنها “شعب الله المختار”.

أدركتُ متأخرًا أن ما خضناه لم يكن دفاعًا، بل ذبحًا. لم يكن بطولة، بل خدعة. والآن، ما تبقى مني مجرد روح تحاول أن تتنفس، في عالمٍ لم يعد يعرف الفرق بين القاتل والضحية.

طالع المزيد:

زر الذهاب إلى الأعلى