د. عبد الغنى الكندى يكتب: لماذا فاجأت المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية العرب؟

بيان

تقديم

في مقالٍ سابق، قام د. عبد الغني الكندي، الأكاديمي والكاتب السعودي الكبير، بتوضيح التفاوت في موازين القوة بين الأطراف المعنية، مشددًا على استحالة امتلاك إيران سلاحًا نوويًا، إلى جانب احتمالية تعرضها لضربة عسكرية إذا ما أقدمت على مسعى من هذا القبيل.
وأشار الكاتب بوضوح إلى ميل العقل السياسي العربي نحو التحليل الأيديولوجي المُهيمن على الخطاب الإعلامي، وهو اتجاه يستغني كثيرًا عن الاعتماد على التحليل العلمي الموضوعي المبني على أسس منطقية ومنهجية.

والمقال التالي، الذي يتسم بقصره النسبي، لا يهدف إلى إجراء تحليل معمّق للوضع الراهن، بل يرد فيه الكاتب – بالأساس – على الانتقادات التي وُجِّهت إلى مقاله السابق عن علاقة إيران بوكلائها في المنطقة.

المقال

في مقالي الذي حمل عنوان «في علم السياسة: إيران لم تبِع حزب الله»، والمنشور في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 2024، واجهت موجة كبيرة من الانتقادات من قبل أنصار نظريات المؤامرة. وقد بيَّنت في المقال أن ضعف إيران الداخلي جعل ميليشياتها الخارجية تمثل خطوط الدفاع الأولى، وذلك عبر التشتيت الاستراتيجي لخصومها في الخارج وإشغالهم بعيداً عن وضعها الداخلي.
وكنت قد جادلت كذلك بأن مصدر القوة الإيرانية كان بالخارج لا بالداخل، حيث كانت تلك الفصائل بمثابة حاجز يحافظ على صورة إيران بوصفها قوة إقليمية فاعلة، ويمنع أي إضعاف مباشر لشرعية النظام في الداخل.

لكن مع تطور الأحداث وضربات إسرائيل لهذه الامتدادات، اضطرت إيران إلى التراجع، وتوجيه جهودها نحو الإسراع بتطوير سلاحها النووي، في محاولة لسد الثغرات الداخلية التي أصبحت مكشوفة وواضحة للعالم ولحلفائها على حد سواء.

وفي الحقيقة، لم يكن تراجعها بدافع بيع وكلائها والتخلي عنهم، بقدر ما كان بدافع الخوف من أن يمتد الخطر إليها مباشرة، وبالتالي إلحاق الذيل بالرأس، وخوفاً من أن يكون هذا التصعيد مقدمة لحرب شاملة تفضي إلى إسقاط النظام نفسه.

ومن هنا، وجدت إيران نفسها مضطرة إلى التخلي عن دعم الأطراف التي قد تسحبها نحو مصير مماثل لما يحدث في لبنان وسوريا. ولذلك، وضعت طهران أولوية حماية وجودها على أي شيء آخر، مفضلة الحفاظ على رأس النظام من المخاطر التي تهدد قاعدته وأذرعه الخارجية.

وما يثير الاهتمام هو أن جانباً كبيراً من الانتقادات التي تلقيتها تمحور حول مقارنة أجريتها بين الخطاب السياسي «الإسلاموي» الإيراني، وخطاب حزب البعث «القومي» العراقي، خلال فترة حكم صدام حسين.

ركزت في هذه المقارنة على أوجه التشابه بين الجانبين، لا سيما فيما يتعلق بتداعيات العقوبات الدولية التي أضعفت قوتهما المحلية بشكل تدريجي. كما تطرقت إلى اعتمادهما على خطاب شعاراتي مفعم بالتصعيد ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، وتبنيهما للقضية الفلسطينية بصورة استعراضية.

بالإضافة إلى ذلك، أشرت إلى نزوعهما إلى إظهار قوة مبالغ فيها، والتي غالباً ما تكون بعيدة عن الواقع الفعلي والحقائق الملموسة على الأرض.

وفي واقع الأمر، لم تُظهر الضربة الإسرائيلية الأخيرة هشاشة إيران الداخلية فحسب، بل كشفت أيضاً مأزقاً عميقاً يعيشه العقل السياسي العربي. فعلى مدار عشرين عاماً، ظل التحليل السياسي في هذه المنطقة يستبعد أي تدخل عسكري إسرائيلي ضد إيران، مدفوعاً إما بدعاية القوة الإيرانية، وإما بمناهج عقلية المؤامرة التي تدعي أن الصراع الإيراني – الإسرائيلي ليس سوى مسرحية مُرتبة مسبقاً تهدف إلى تدمير العالم العربي.

وكلا التفسيرَين يفتقر إلى المعايير العلمية والموضوعية في التحليل السياسي، بينما أفسحا المجال لسيطرة النزعة الشعبوية والخرافية، وهيمنة التفكير القائم على التمني على محتوى الخطاب السياسي الإعلامي، وهي أمور تلقى قبولاً وصدى واسعاً واستحساناً كبيراً بين الجمهور العربي.

وعلى هذا الأساس، كان من الطبيعي أن تسفر هذه الحقبة الطويلة من التضليل الآيديولوجي والتشويش الإعلامي والثقافي عن حالة مقاومة فكرية ومناعة للعقل الجمعي ضد أي تحليل موضوعي قد يدعم فرضية الضربة الاستباقية لإيران، في حال اقترابها من امتلاك سلاح نووي، كما حدث سابقاً مع المفاعل النووي العراقي في أوائل ثمانينيات القرن العشرين.

وقد قوبلت أي قراءة عقلانية لتفوق إسرائيل العسكري والتكنولوجي، مقارنة بإيران بالرفض القاطع، رغم الفارق الشاسع بين الطرفين.

ختاماً، لعل هذه الضربة تمثل بداية لوعي سياسي جديد أكثر اتزاناً، يقوم على اعتماد المنهج العقلاني بدلاً من الانسياق وراء العواطف لتحليل الظواهر السياسية، وتفضيل العلم على الخرافات، وتقديم التفكير الواقعي على نظريات المؤامرة، واحترام المنهجية الموضوعية بدلاً من الخطابات الآيديولوجية والشعارات غير المُحكَمة.

فمثل هذا التحول مطلوب بشدة كي نعيد الاعتبار للتخصصات العلمية والمعايير المنهجية بعيداً عن الخطاب الإنشائي، والحديث المرسل، والتعميم غير المدروس.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى