فى ذكرى ميلاد سيد الخلق أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 2 من 3).. نجاة الذبيح

د. صلاح شفيع

سرد إبداعى يكتبه: د. صلاح شفيع

المشهد الثانى:

مضتْ آمِنَةُ وهي تتعجَّبُ من نفسها، تماماً كما تعجَّبتْ أختُها منها، فيم الخجلُ لو قيل لفتاة أنَّ ابن عمها الَّذِي مات العام الماضي كان يمكن أنْ يخطبها ؟؟ لكنَّ الفتى مازال لم يمتْ..

لم تلبث آمِنَةَ أنْ عرفتْ ما شاع في مكَّةَ، استجابَ عَبْدُ الْمُطَّلِب لكبارات قُرَيْش بأنْ يذهبوا إلى الحجاز، فإن بها عرافَّةً اسمها سجاح لها تابعٌ فليسألها عن ذلك.. قالت قريش له :

ـ اللهَ، لا تذبحه أبداً حتى تُعذَر فيه ‏‏‏.‏‏‏ لَئِنْ  فعلتَ هذا لا يزال الرجلُ يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاءُ  النَّاس على هذا ‏‏‏!‏‏‏ ثم أنتَ على رأس أمركَ إنْ أمرتْكَ الكاهنةُ بذبحه فاذبحْه، وإن أمرتكَ بأمرٍ لكَ وله فيه مخرجٌ قبلْتَه.

وهكذا مضى القوم إلى العرافة يقولون في خَيْبَرَ، وأصبح أهل مكَّةَ في انتظار الخبر، هل سينجو الفتى ؟ هل ستستطيع العرافَّةُ أنْ تجد لعَبْد الْمُطَّلِب مخرجاً يقبله؟

إن عَبْد الْمُطَّلِب لن يضحك على نفسه، إنَّه ارتضى أنْ يضحِّي بابنه وفاءً لنذره، فلن يساعد في خداعٍ. فإنْ لم تقدِّم العرافَّةُ حلاً يرتضيه فسيصرُّ على تنفيذ الذَّبْح، فبأي الأمرين يرجع الوفد: بفداء الفتى أو بذبحه؟؟ فإنْ كان الذَّبْح فقد ذُبِح الفتى مرتين  بهذا الانتظار.

أما آمِنَةُ فما عادتْ تستطيع أنْ تذهب لأختها، فالفتى لم يعد ميتاً، وربما رجع بالحَياة، لهذا تخشى أنْ تنظر أختُها إليها فتقرأ فيها رغبتَها في نجاته، كأنها بأختها الْآنَ  تنظر إليها من بعيدٍ، وتقول لها:

ـ لا يمكنكِ إخفاء مشاعركِ ! كشفتُكِ ! أنتِ لستِ فحسب مهمومةً بالفتى، بل أنتَ هناك، قد سافرتِ معهم.. وكأنَّها تردُّ عليها:

ـ لستُ كما تظنين، أنا فحسب أريد نجاته، أما الزواجُ فما شأني به؟!

ماذا دهاها ؟ الكلُّ يقول لابد للفتاة من أنْ تتعلق بفتىً، لَكنَّهَا  كانتْ تدخر ذلك لمن يقولون لها هذا زوجُكِ، فلماذا اليوم تتعلَّق برجل لم يكن كذلك ؟.. ربما كان ليكون كذلك كما قالتْ هالة أختها! كأنَّه حقَّاً خطبها، ثم حدث ما حدث، ووقع السهم عليه، فهي تنتظر النجاة لمن خطبها. هي كذلك لَكِنَّهَا ستنكر، لهذا يجب أنْ لا تتكلَّم مع أحد في هذا الموضوع، وليس لقُرَيْش حديثُ إلا هذا، لذا فعليها أنْ تلزم حجرتها، وبخاصة أمام أختها الَّتِي  ستعرف الْحَقِيقَة وإنْ لم تقل شَيْئاً.

أنتِ يا هالةُ من قلتِ إنَّه كان سيخطبني، ولم يمنعه سوى أنَّ أباه كان يخشى أنْ يكون هو الذبيح، ولولا ذلك لكنتُ خطيبتَه الْآنَ، فلو نجا إذن فأنا خطيبتُه، لكن ماذا لو نجا، وخطب أخرى ؟؟ فلينجُ إذن حتى لو خطب أخرى ؟

فهل لو عرفتْ هالة ذلك ستصدِّق أننَّي مهتمةٌ لأمره ليس ليكون خطيباً لي، ولكن لينجو لشبابه ؟؟ أم ستقولُ: وهل الَّتِي  تتمنَّى نجاتَه وإن ذهب لغيرها إلا مُحبِّةٌ حقيقية له ؟؟

آهْ يا هالةُ، أنتِ من حوِّلتِني من مجرد فتاةٍ مثل غيرها تشفقُ على فتىً سيذبحه أبوه إلى فتاة دنياها هذا الفتى، أنا حقاً كأني مخطوبة له، وانتظر النبأ العظيم، نجا خطيبكِ ؟ أو ترملي أَيَّتُهَا  الأرملة الحزينة التي لم ترَ وجه زوجها ؟

اقرأ أيضا:  http://فى ذكرى ميلاد سيد الخلق.. أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 1 من 3)

مازالتْ تصمُّ أذنيها عما يدور حولها، لا تريد أنْ تسمع شَيْئاًً، هي أدرى بنفسها، تدري أنَّها ستكون كتاباً مفتوحاً وهي لا يمكنها أنْ تسمح لأحد أنْ يعرف ما بداخلها، لهذا كانت تنشغل والأحاديث تترى، لكنها حسمتْ أمرها

ـ لن أعرف شَيْئاً.. !

أنا كالمريب يكاد يقول خذوني، لن أبدو أبداً كأي أخرى تتابع أمراً يهتم به الجميع، سأبدو أني أهتم بشأنٍ خاص بي. كأني الوحيدةُ المشغولة به !

وحتى لو لزمتُ الصمت، فهل سينطلِي ذلك على هالة ؟ بل ستعرف كل شَيْء من أوَّل نظرة، وستفضحني لها عيناي، الحمد لله أننا لم نلتقِ، لم أزرْها، وكيف أفعل ؟ وهي لا تستطيع أن تزورنا وزوجها خارج البلدة.

هذا صوتُها، هي هالة حقًّا،  إذن عاد الوفد، ترى ماذا فعلوا ؟؟ أكان الذَّبْح ؟؟ وهل تمَّ ذلك هناك بعيداً ؟؟ أم رجع معهم..

ـ ألم أقل لكِ ؟؟

ـ ماذا ؟

ـ هيا يا عروسَ الذبيحِ، يجب أنْ تتجهَّزي !

ـ ماذا حدث ؟ هل نجا ؟

نجا ؟! نعم نجا، وذُبِحتْ عنه مائةُ من الْإِبِل، وجاءكَ مع أبيه طالباً للزواج؛ لنكون نحن الأختان زوجتين للرجل وابنه.

وأبو الحارث مصرُّ على التعجيل بالزواج، فهو لا يصدِّق أنَّ ابنه نجا له، فأي فتىً في قُرَيْش أكثر حظاً منه ؟؟

بالأمس كان ميتاً، واليوم يُزَفُّ على زهرة بني زهرة، بل زهرة قُرَيْش. تمَّ الزواجُ في التو واللحظة، لعبد الله اليوم ما ليس لغيره، ربما لو جاء عبد المطلب من قبلُ لقال له أبوها وهبٌ:

ـ قبلنا بابنكَ يا عَبْدَ الْمُطَّلِب، لكن أعطِنا وقتاً نجهِّز فيه البنتَ، أو نخبر الأهلَّ، لكنْ اليومَ فالذبيح رغباتُه دينٌ، لا أحدَ من بيوت العرب يقول له : لا إِذَا  ذهب إليها خاطباً، ولا أحدَ يقول له : قبلْنا بكَ، لكنْ البناء فِيمَا بَعْدُ.

علمتْ آمنةُ  بعد ذلك أنَّ الوفد ذهب إلى العرافة سجاح، فقالتْ لهم كم الدِّيَّة لديكم ؟ قالوا عشراً من الْإِبِل، فقالتْ لهم :

ـ  فارجعوا إلى بلادكم، ثم قرِّبوا صاحبَكم وقرِّبوا عشراً من الْإِبِل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح؛ فإنْ خرجتْ على صاحبكم، فزيدوا من الْإبل حتى يرضى ربُّكم، وإنْ خرجتْ على الْإِبِل فانحروها عنه فقد رضي ربُّكم ونجا صاحبُكم.

فخرجوا حتى قدموا مكَّةَ فلمَّا أجمعوا على ذلك الأمر قام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله، ثم قرَّبوا عبد الله وعشراً من الْإِبِل، ثم ضربوا فخرج القدحُ على عبد الله، فزادوا عشراً ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشراً فلم يزالوا يزيدون عشراً عشراً، ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغتْ الْإِبِل مائة، ثم ضربوا فخرج القدحُ على الْإِبِل..

أقام عبد الله عندها ثلاثةَ أيام كما العادة. ثم انتقلتْ إلى بيتها الجديد، لا تستطيع أن تقول له : أحببتُكَ قبل أن أراكَ، وانشغلتُ عليكَ في محنتكَ كأنكَ كنتَ خطبتَني قبلها، ولذلك كنتَ مكافأتي مثلما كنتُ أنا مكافأة أبيكَ لكَ. فهل حقاًّ  لم تكنْ مخطوبةً له؟؟

ـ أشعر بخفة يا عبد الله، كأني أريد أنْ أجري..

ـ لعلكِ حبلى بابن الذبيحين.. !

ـ ابن الذبيحين !

ـ نَعَمْ، ألا تدرين أنَّ ابنكِ القادم هو ابن الذبيحين، إسماعيل الَّذِي افتداه اللهُ بكبش من السماء، وأنا الَّذِي قبلتْ السَّماء فداءً لي عشر ديات، مائة من الْإِبِل، فكلُّ ابنٍ مِنَ الْعَرَبِ  ابن الذبيح، أما ابنكِ هذا فتفرَّد عن غيره فهو ابن الذبيحينِ..

ـ كأني حبلى فعلاً..

ـ ما أراكِ إلا كذلك ! ألا تقولين أنكِ تشعرين بخفة ؟

ـ هو ذاك، لكن ليس هذا دليل الحبل، ربما العكس..

ـ وهل ابن الذبيحين مثل غيره.. ؟؟

ـ أنتَ تتكلمُ كأني حقاً أصبحتُ حبلى، وكأنه جاء ولم يكن مثله أحدٌ..

ـ هذا يقيني!

ـ كيف وقد كنتَ..

ـ سأذبح ؟

ـ لم أقصد..

ـ لا عليكِ، تلك هي الْحَقِيقَة، كان الذَّبْح قريباً مني، لَكِنِّي  كنتُ واثقاً أنَّه لن يتمَّ!

شَيْء ما كان يقول لي : ستكون أباً يا عبدَ الله، ربما لو أني تزوَّجتُ قبل أنْ تقع القرعة عليَّ  لشعرتُ أنَّ الأمر حقيقة، وأنَّ موتي لا يمنعني أنْ أكون أباً، فلعلَّ امرأتي حبلى بمن يجعلني أباً. لكن  لأني لم أكن كذلك، فقد كنتُ موقناً  أني لا يمكن أنْ أموت قبل أنْ أكون أباً..

ـ كنتُ أسأل نفسي..كيف حاله وهو ينتظر الموت ؟

ـ أكانتْ حياتي تشغلُكِ ؟

ـ ماذا كنتُ تتوقع لو أنَّ هذا الأمر حدث وأنا مخطوبة لكَ !

ـ كما قلتُ لكِ كنتُ سأكون مطمئناً لأني ما كنتُ سأموت قبل أن أكون أباً، ومادمنا خطبة فحسب، فلن تكوني حبلى بابني بعدُ، وإذن فلا خوف عليَّ !

ـ فماذا عني ؟

ـ كان سيجنّ جنونُكِ وَحْدَكِ، لأنكِ لا تملكين اطمئناني !

ـ هذا ما كان ! كنتُ سأجنُّ كأني كنتُ مخطوبةً لكَ فعلاً.

ـ وأنتِ لا تعرفيني، ولا تعرفين أنكِ ستكونين زوجي بعد أيام قلائل..!

ـ وأنا لا أعرفكَ ولا أعرف أنكَ ستكون زوجي بعد أيام قلائل، ولا تقلْ لي كيف، فهل قُلْتُ لَكَ  كيف عرفتَ وكل الأمور تدفع إلى موتك أنَّ هذا لن يصير.. ؟؟

ـ فكأنكِ كنتِ زوجتي قبل أنْ أراكِ..

ـ كأنه كذلك ورب الْكَعْبَة، كأن أباكَ وأبي اتفقا على زواجنا، وكتما الأمر، ثم عرفتُ أنا بطريقة ما، فكنتُ أشعر أنكَ لي !

ـ لعلَّكِ محقَّة، فأبي يقول لي إنَّه لما رجع من اليمن ، وعزم على أنْ يصاهر بني زهرة، كان ينتوي أنْ يخطب له ولي، ثم لمَّا تذكَّر نذرَه عدل عن ذلك، وخاف أن يصيبني النذرُ،كأنَّه كان واثقاً أني صاحب النذر، لذلك بدلاً أن يخطب لي وله، خطب لنفسه أختكَ، وأجَّل زواجي حتى يبين له الأمر،  فإنْ كنتَ الذبيح فقد أحسن بعدم تزويجي،وإن لم أكنْ، فلم يفتْه الأمرُ،  وهذا ما حدث، وها أنتِ الْآنَ  لي ! وهذا ابني في بطنكِ !

ـ فكأنَّنا كنَّا لبعضنا البعض قبل أنْ نلتقي،  لقد خطبتُكَ لنفسي قبل أن تخطبني يا أبا ابن الذبيحين !

ـ لذلك لا أظنني أجمعُ عليكَ أخرى كما يفعل رجالُ قومي، فأنتِ واحدتي في حياتي، فهل تعديني أنْ أكون واحدَكِ فلا تَتَزَوَّجي من بعدي؟

ـ أطال الله عمركَ، وجعلني فداءكَ، وجعلكَ ستري حتى تدخلني بيدكَ القبر !

ـ الوعدَ يا آمِنَةُ !

ـ أنتَ واحدي، لَكِنِّي  أموت قبلكَ.. !

ـ  كم أحبُّ هذا القادمَ، كان وهو نطفة في صلبي أشعر أنَّ الموت لن يقربني، حتى لما مضى بي أبي والشفرة معه كنتُ ذا سكينة، وكأنَّ أبي يمازحني، أو يختبر طاعتي وحبي له، ولمَّا يجدني طائعاً سيقول لي: انهضْ يا عبد الله، فلا ذبح.

ولما وقف له القومُ، وقالوا: واللهِ لن تذبحه أبداً حتى تُعذَر فيه، وجدتني أقولُ لنفسي أنا أعرف أنَّ هذا لن يحدث.

ولما قرروا أنْ يذهبوا إلى يَثْرِب للعرافة، قلتُ سيرجعون بعذر.

ولما ضُرِبَتْ القداحُ وفي كل مرة تخرج عليَّ لا على الْإبل كنتُ أقول: القادمة عليها.

حتى وجدتني ناجياً،  فقلتُ: هي الأمانةُ التِي  معي، تحفظني من الموت، فلا أموتُ وهي معي، لكنْ، يجب أنْ تتجهَّزي من تلك اللحظة لموتي، فقد أموتُ الآنَ في أي وقت، فقد غادرتني تلك الأمانة الحافظة، فما كان يمنعني من الموت  لم يعد معي، فقد انتقل إليكِ !.

زر الذهاب إلى الأعلى