صفحات من حياة المصريين (6) ولم يستقر المقام لنابليون فى المحروسة
سرد تاريخى يكتبه: طارق متولى
رأى نابليون بعد أن استقر له المقام فى البلاد أن يبدأ باستئصال قوة المماليك؛ فأرسل قائده «ديزيه» في فرقة من الجيش لمطاردة مراد بك بالصعيد، وأرسل أخرى في طلب إبراهيم بالشرقية، فلم تقو عليه لقلة عددها، واضطر نابليون أن يذهب إليه في جيش بنفسه، فقابله إبراهيم بك بالصالحية، فانهزم واضطر إلى الفرار جهة الشام، بعد أن كبَّد الجيوش الفرنسية خسارة كبيرة.
ثم عاد نابليون إلى القاهرة، واستولى رجاله على أملاك البكوات وأموالهم، وتشددوا مع نسائهم حتى اضطروهن إلى أن يفدين أنفسهن بالمال من ذلك أن زوجة مراد بك فدت نفسها بمبلغ ١٢٥٠٠٠ ريال.
وحاول بعض الغوغاء الاشتراك مع الجند في نهب بيوت المماليك، فقابلهم نابليون بالشدة؛ فساعد ذلك على رجوع السكينة بعض الشيء.
على النمط الأوروبي
ولما رأى نابليون أن الأمور قد هدأت عمل على تنظيم الحكومة، وأن يُدخل في البلاد كل ما يستطيع من الإصلاحات التي تقتضيها الحضارة الفرنسية، فنصب أحد رجاله حاكما على القاهرة، وجعل آخر مديرا للشئون المالية، وأمر بتشكيل مجلس نيابي عبارة عن ديوان من الأهالي ليسترشد بهم في إدارة البلاد.
وتكوّن الديوان بادئ الأمر من عشرة من المشايخ، منهم الشيخ عبد الله الشرقاوي مؤلف كتاب «تحفة الناظرين» في تاريخ مصر، ومن أعضاء الديوان أيضا السيد خليل البكري نقيب الأشراف وشيخ سجادة البكرية في ذلك الوقت، وغيرهما من أفاضل العلماء.
طالع المزيد| صفحات من حياة المصريين (4) الحملة الفرنسية على شواطىء الأسكندرية
صفحات من حياة المصريين (5) الاحتلال الفرنسى لمصر
ثم وسّع نابليون من نطاق المجلس، فضم إليه أعضاء يمثِّلون جميع الطوائف المقيمة بمصر، ومنهم أعضاء من الفرنسيين.
واندفع نابليون في إدخال كثير من الإصلاحات الأخرى الخاصة بالصحة العامة، أو الأمن وغير ذلك، غير مبال بإستياء الناس أو رضاهم، ومكتفيًا باعتقاده أنه إنما يريد الإصلاح على النمط الأوروبي، ومن ذلك أنه أمر الأهالي بكنس شوارعهم ورشها في أوقات معينة، وأمر بوضع مصباح على كل منزل، مع تهديد كل من يخالف ذلك بالعقوبات، وأمر بتسجيل الوفيات والمواليد مع تأدية غرامات لكل ذلك، ووضع أنظمة لقيد عقود الزواج والطلاق.
مما جعل المصريون يُحسون تدخله في حريتهم الشخصية وكانوا لم يعهدوا شيئً من ذلك في عهد أظلم المماليك فقلَّت ثقتهم بوعود نابليون ومواثيقه، وأخذوا ينظرون شزرا إلى كل قانون يسن خصوصا عندما أمر بهدم أبواب الحارات والدروب، والتى كانت تغلق ليلا وتعتبر حصون طبيعية لبيوت الأهالى.
سخط الشعب
استمر نابليون فى اصلاحاته ومن أجل ذلك هدم كثير من الآثار والمساجد مما زاد من سخط الشعب ثم لم يلبث أن جاءه نبأ تدمير الأسطول الفرنسى فى ابو قير على يد الأسطول الإنحليزى بقيادة نلسن الذى ظل يبحث عن الأسطول الفرنسى فى البحر حتى وجده فى ابو قير فدمره بالكامل عندما هاجمه على حين غرة وهى ما تعرف بموقعة ابو قير البحرية .
حزن نابليون لذلك حزنا شديدا لإنقطاع الإتصال بينه وبين فرنسا إذ أصبح شبه محاصر فى مصر، لكنه استمر فى تنظيم شؤون البلاد وفرض القوانين ومنها أنه جمع العلماء، وطلب منهم أن يرتدوا شارة الجمهورية الفرنسية ذات الثلاث الوان فلما رفضوا عنفهم على ذلك فتوقفوا عن تحسين العلاقة بينه وبين العامة، مما زاد من سخط الأهالى حتى خرجوا خروجا عاما على الفرنسيين فى يوم ٢٢ اكتوبر أى بعد حوالى شهرين من دخول الحملة الفرنسية إلى مصر.
ثورة القاهرة الأولى”
وأطلق المؤرخون على هبة المصريين “ثورة القاهرة الأولى” وأبدى خلالها الأهالى شجاعة منقطعة النظير وقتلوا كثير من الجنود الفرنسيين ونصبوا المتاريس على حدود العاصمة فى مصر القديمة، وما أن سمع نابليون بالخبر حتى نصب المدافع فوق التلال المطلة على الأحياء التى غفل الأهالى عن تحصينها، أو لم يكن لديهم المعدات الكافية لتحصينها فراح الجنود الفرنسيون يطلقون قذائف المدافع على الأهالى فقتلوا منهم جمعا غفيرة، وظلوا يصلونهم طول الوقت نارا حامية حتى ألحقوا كثيرا من الضرر بحيِّهم، وما زالت آثار هذا التخريب باقية إلى الآن.
انتهاك الأزهر
ثم دخل الفرنسيس القاهرة وتجولوا في أسواقها لإعادة النظام والسكينة، ثم دخلت طائفة منهم الجامع الأزهر بخيولهم، وحطموا قناديله، وأزالوا بعض الآيات القرآنية، واتخذوا الجامع إصطبلا لخيولهم؛ فعظم استياء الناس، وأرسل المشايخ وفدا إلى نابليون يلتمسون إصدار الأمر بإخلاء الأزهر من الجند، فأجاب ملتمسهم بعد التحذير والتهديد، فهدأت المدينة.
وتصور البعض أن الأمور مع الفرنسيين سوف تعود إلى ماكانت عليه من قبل “الثورة” أو كما كتب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى: “رجعت المياه إلى مجاريها”، لكن ما حدث هو أن نابليون قلَّل بعد ذلك من اعتبارً المشايخ في الديوان وغيره وأصبح عملهم قاصرا على نشر المنشورات التي يحث فيها الأهالى على التزام السكينة والخضوع للفرنسيين والاعتراف بما أبداه إليهم نابليون من الجميل.
غارات العثمانيين
وبعد أن أخمد نابليون الثورة تفرغ لتحصين مصر لصد غارات العثمانيين، وكان هؤلاء قد أخذوا يسعون في استرجاعها، وعقدوا لذلك معاهدة مع إنجلترا وروسيا، وعولوا في فتحها على تسيير جيشين إليها: الأول يزحف على «العريش» من جهة الشام، والثاني يجتمع في جزيرة «رودس» ومنها ينقله الأسطول الإنجليزي إلى سواحل مصر، إلا أنهم أساءوا التدبير في إنفاذ هذه الخطة، إذ وصل الجيش الأول إلى العريش قبل أن يستعد الثاني للقيام فتسنى لنابليون مقابلة كل منهما على حدة بجموع جيوشه، مع أنه كان سيضطر إلى تجزئتها لو وصل الجيشان في وقت واحد.
ولما علم نابليون بذلك أسرع بمعظم جيشه للقاء جيش الشام، فبلغ العريش بعد أحد عشر يوما واستولى عليها عنوة، وسقطت «غزة» في يده بعد ذلك بقليل.
غزو الشام
وفي يوم الخامس والعشرين من رمضان سنة ١٢١٤ه/٣ مارس سنة ١٧٩٩م، بلغ نابليون وجنوده «يافا» وحاصرها، ولما رأت حاميتها أن لا قبَل لهم به استأمنوا إليه فأمّنهم، ولكنه غدر بهم وقتلهم جميعا رميًا بالرصاص؛ وتلك وصمة كبرى في تاريخ حياته لا يغفرها له التاريخ، وقد قتلهم جميعا ليخلص من عبء ثقيل هو إطعامهم وحراستهم.
وبعد أن حصّن يافا أسرع إلى حصار عكا، فلم يقدر عليها لحسن دفاع حاكمها، أحمد باشا الجزار، ومساعدته بحرا بأسطول إنجليزي بقيادة السير سدني سمث، فعاد نابليون إدراجه بعد أن حاصر عكا مدة خمسين يوما ولم يكد يصل إلى مصر حتى جاءه خبر وصول البوارج العثمانية إلى الإسكندرية وإنزال ١٠٠٠٠ من الأتراك بجهة أبو قير، وذلك فى يوم (٩ من المحرم سنة ١٢١٤هـ/١٣ يونيو سنة ١٧٩٩م)، فسار إليهم وهزمهم شر هزيمة.
على أن ذلك لم يطيِّب من خاطر نابليون؛ فإن انقطاع المواصلات عنه بمصر بعد تدمير أسطوله بموقعة أبى قير، وعجزه عن الاستيلاء على عكا التي هي في نظره مفتاح الشرق، وضياع أمله في فتح الهند؛ كل ذلك ملأه يأسا، وذهب أدراج الرياح ما كان له من الآمال في تكوين دولة عظيمة بالمشرق.
العودة إلى أوروبا
وارسل له السياسى الإنجليزى السير سدني سمث، طائفة من الصحف الأوروبية، فقرأ فيها أن الحرب تجددت بين فرنسا والنمسا، وأن الأخيرة استردت شمالي إيطاليا الذي كان قد استولى عليه هو قبل مجيئه إلى مصر؛ فعزم في الحال على أن يعود إلى فرنسا سرا، فغادر مصر يوم (١٩ ربيع الأول سنة ١٢١٤ه/٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩م) بعد أن عهد بقيادة الجيش للقائد «كليبر».
خرج نابليون من مصر وترك الجيش الفرنسي تهدده الأخطار من كل جانب، إذ كان عدده قد نقص كثيرا في معارك الشام وغريها، ودب السخط في نفوس الجند وقلَّت أموال الخزينة، وأصبح الجيش في حاجة إلى الذخيرة والملابس، وأرسلت الدولة العثمانية جيشا آخر إلى العريش يقوده الصدر الأعظم، وأسطولا َ إلى دمياط؛ تريد إعادة الكرة على مصر، وفى ذات الوقت عاد المماليك إلى مكافحة الفرنسيس، واضطر الأخيرون سنة ١٢١٤هـ إلى مهادنة المماليك الذين كانوا قد تغلبوا على معظم الصعيد بزعامة رئيسهم مراد بك، الذى تولى حكم بلاد الصعيد، بشرط أن يكون خاضع لسلطتهم إلا انه كان متربصا بهم النوازل حتى يستبد في قومه بملك مصر.
كليبر
وكان كليبر من أكبر قواد الفرنسيس وأعظمهم مهارة، إلا أنه أدرك صعوبة التغلب على هذه الأمور، ورأى من المصلحة ألا يبقى بمصر، وعرض الصلح على الصدر الأعظم والسير سدني سمث، واتفق معهما على أن يخرج من مصر بجنوده وجميع مهماته، ويسافر إلى فرنسا على نفقة الدولة العثمانية، ويُعرف ذلك «بمعاهدة العريش» وتاريخ توقيعها (شعبان سنة ١٢١٤هـ / يناير ١٨٠٠م).
ولما علمت بذلك الحكومة الإنجليزية استنكرت تصرف السير سدني سمث، وأرسلت إليه الأوامر بأن لا يعقد صلحا مع الفرنسيس إلا إذا تركوا جميع أسلحتهم بمصر، فكان ذلك من الغلطات التي دونها التاريخ للحكومة الإنجليزية إذ إن غرضهم الأصلي لم يكن إلا إخراج الفرنسيين من مصر، وها هو ذا قد عرض عليهم بلا حرب ولا قتال فأبلغ السري سدني سمث أوامر حكومته إلى كليبر، وانقطعت بذلك المفاوضات بين الطرفين.
انتظرونا فى الحلقة القادمة نكمل سرد وقائع الحملة الفرنسية على مصر ودخولها عهد جديد.. فإلى لقاء.