د. قاسم المحبشى يكتب: من قلب الظلام إلى ذاكرة الرحيل
أوضحت لجنة تحكيم جائزة نوبل أن عبدالرزاق قرنح الذي تشكل رواية “باراديس” (“جنة”) أشهر مؤلفاته، مُنح الجائزة نظراً إلى سرده “المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات فضلا عن أسلوبه الجريء في التحدث عن الآثار المُدمِّرة للاستعمار والذي لا يخلو من العاطفة الجيّاشة واضافت إن تفاني عبد الرزاق جرنة في نقل الحقيقة كما هي، وكرهه للتبسيط لهو أمر مذهل بحق إذ تنحرف رواياته عن الأوصاف النمطية وتطلعنا على شرق إفريقيا المتنوع ثقافيًا غير المألوف للكثيرين في أجزاء أخرى من العالم إذ تجد شخصياته نفسها دومًا في حبكاته الروائية في فجوة عالقة بين الثقافات والقارات، بين حياة قديمة عاشتها وحياة ناشئة تنتظرها، وهي من المعضلات الإنسانية عسيرة الحل”
الشخصيات العالقة بين الثقافات تلك هي الكلمة المفتاحية لفهم معنى فوز الروائي الانجليزي الجنسية التنزاني الأصل العربي الحضرمي الجذور، إذ لأول مرة يشهد الأدب ما بعد الكولونيالية حالة مماثلة لشخصية روائية عالمية متعددة الهويات وهذا ما ألملح إليه الدكتور خالد بلخشر أستاذ الأدب الانجليزي والترجمة بجامعة حضرموت الذي كتب” هنا يقع الوطن (بين بين) في الفراغ البيني بين كل هذه المتاهات.. وهذا ما اسماه الناقد الامريكي هومي بابا in-between-space… المساحة البينية، أو هوية الهجنة hybrid-identity… وهذا ما يستدعي صناعة وطنا بديلا عن كل الأوطان” ومن هنا تأتي عبقري اللغة بوصفها وطنا للمنفيين في عالم بالغ التيه والقسوة.
طالع المزيد| د. قاسم المحبشى يكتب: العقل الذي اشتعل فأضاء ورحل
د. قاسم المحبشى يكتب: اكتب حتى أعرفك.. خبرة وتغذية راجعة
حينما كتب الروائي البولندي البريطاني جوزيف كونراد روايته قلب الظلام عام 1902. كان الروي وشخوصه أوربية الاسماء والهوية والرواية تحكي باختصار هي رحلة بحرية إلى أعالي الكونغو، يقوم بها “مارلو” بطل الرواية الذي يعمل في شركة بلجيكية نشاطها الأساسي هو تجارة العاج، مع مدير مقر “كينشاسا” وعدد من الأوروبيين المسلحين، من أجل إحضار “كورتز” مدير فرع الشركة في الكونغو بعد أن انتشر خبر مرضه، ليتم نقله إلى أوروبا للعلاج.
تتطلب الرحلة من القبطان شيئاً من الخبرة، فمجرى النهر ضيق في بعض أجزائه، ومياهه السوداء متفاوتة العمق وعلى القبطان أن يتفادى الاصطدام بسيقان الأشجار الضخمة، التي تطفو فوق الماء، وأن يتفادى أيضاً الارتطام فجأة بالقاع. لذلك أصبح “مارلو” مضطراً للبقاء بالقرب من الشاطئ، أي بمحاذاة الغابات السوادء المظلمة، التي كان ينبعث من داخلها صياح غاضب، كان يقلق “مارلو” أكثر من كل ما عداه، فيشعر على حد تعبيره (وكأن الأرض قد أصبحت غير الأرض) خلال الرحلة يبدأ “مارلو” نفسه في التغير، فيتساءل إن كان السود ينتمون حقاً إلى الجنس البشري الذي ينتمي هو إليه! يتساءل هكذا عندما يشاهدهم يرقصون عرايا وقد أمسكوا برماحهم، أو عندما يسمع صياحهم، أو غناءهم، ينبعث من قلب الظلام. ثم يعود فيعترف بأن هذا الصياح يجد صداه في أعماق نفسه، التي ما زالت تحتفظ ببقية من الماضي البعيد، ذكريات في اللاشعور، مضت عليها عشرات أو مئات الاّلاف من السنين” تلك الرواية التي اعتبرها ادوار سعيد في كتابه “الثقاقة والإمبريالية شاهد ودليل لتمثل الغرب للشرق واعادة اختلاقه على صورته إذ كتب “كونراد يكتب كرجل حفرت فيه وجهة النظر الغربية عن العالم غير الغربي حتى أعمته عن رؤية أي تواريخ وثقافات أخرى وتطلعات أخرى”
وهو بذلك يذكر بعبارة كارل ماركس عن ضرورة تمثيل الشرق بقوله ” أنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ينبغي أن يمُثلوا”
كانت أفريقيا في قلب الظلام مجالا معتما وموضعا للاكتشاف والكشف والرؤية والتمثيل حتى يكون لها معنى. ومنذ عام ١٩٠٢ جرت مياة كثيرة في نهر التاريخ الكولونيالي الظليم وسرديته لحكاية الذات والآخر حتى أتى اليوم الذي استطاع ذلك الأخر أن يكونا ذاتا تحكي قصتها وتروي مأساتها للعالم على لسان أحد القادمين من اعماق روح الحضارة التليدة عبد الرزاق قرنح التنزاني الذي انتزع نوبل بروح “حضرموت” هكذا كتب عبدالجليل سليمان واضاف الحضرمي في تغريباته المتعددة وسردياته البديعة وتنزانيته الأثيرة وإنجليزيته المتماسكة” لقد استطاع قرنح أن يروض الكولونيالية المتوحشة من داخلها ويعيد صياغتها في سردية مختلفة كلية عن سرديتها واحدية الصوت والاتجاه والوظيفة. إذ كتب عشر رويات بداءا بذاكرة الرحيل وطريق الحجاج ودوتي وجنان وصمت مدهش والهجران وفرار إلى باراديس (جنة) التي فازت بالجائزة.وعندما رشحت رواية عبد الرزاق قرنح “عبر البحر” ضمن القائمة الصغيرة لجائزة البوكر برايس، كتب محرر الملحق الأدبي لجريدة “التايمز”: “يحبس القارئ أنفاسه وهو يقرأ هذه الرواية لكي لا يخلّ بمجرى أحداثها”. ووضع الناشر الفرنسي هذه الكلمة التي تشبه تحدياً على غلاف الرواية. وعندما يصل القارئ الى الغلاف الأخير فإنه سيجد كلمات الناقد صحيحة جداً”
لقد مدح النقاد قدرة الفائقة على التشويق بينما الأهم هو تمكنه من صناعة أدب عالمي رفيع عن حياة من لا صوت لهم ولا تمثيل؛ اولئك الذين خلفتهم قرون من الهيمنة الكولونيالية الغربية على قارعة الطريق عالقين بين الثقافات فكانت الكتابة سبيلهم للنفاذ إلى واجهة العالم الراهن وميدانه العام.
أنه الرد بالكتابة بحسب بيل أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفن في كتابهم النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة اسفرت التجرية الاستعمارية وردود المراحل اللاحقة وتحدياتها عن ظهور كتابة جديدة باللغة الانكليزية، وهي كتابة قوية ومتنوعة، فيها استنباط وابداع، فيها تحد للمعايير السائدة في الأدب والثقافة، ولقد أفضت هذه الكتب الى ترسيخ نمط خاص من الكتابة عرفت بأنها ما بعد كولونيالية في ثقافات بلدان مختلفة مثل الهند واستراليا وافريقيا وكندا.
على هذا النحو يمكن النظر إلى المعنى الكلي والأخير لفوز الحضرمي التنزاني الانجليزي بجائزة نوبل للآداب. إذ نقل الصوت والصورة للوجة الأخر من العملة الكولونيالية وبدون مساومة بحسب بيان لجنة تحكيم الجائزة
التي قالت أن سرده يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات فضلا عن أسلوبه الجريء في التحدث عن الآثار المُدمِّرة للاستعمار والذي لا يخلو من العاطفة الجيّاشة.
اخيرا وليس آخرا بات للشرق من يمثله تمثيلا انسانيا ولكنه ليس متناميا إلى أي هوية من الهويات النمطية التقليدية التي كان يعرفها الاستعمار القديم. أنه” مذهل بحق إذ تنحرف رواياته عن الأوصاف النمطية وتطلعنا على شرق إفريقيا المتنوع ثقافيًا غير المألوف للكثيرين في أجزاء أخرى من العالم إذ تجد شخصياته نفسها دومًا في حبكاته الروائية في فجوة عالقة بين الثقافات والقارات، بين حياة قديمة عاشتها وحياة ناشئة تنتظرها، وهي من المعضلات الإنسانية عسيرة الحل”
ومن الطريف الإشارة إلى أن الروائي عبدالرزاق قرنح حينما سأل عن الصفة التي يحب أن يتصف بها قال: أنا عبدالرزاق قرنح وكفى.