د. النشار يقدّم “فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر” كتاب د. المحبشي
أشاد الدكتور مصطفى النشار، أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة القاهرة ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية، بكتاب الدكتور قاسم المحبشي، الفيلسوف والأكاديمي اليمني، “فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر” في جزئية الأول، فلسفة التاريخ من هيرودوت إلى شبنجلر والثاني؛ فلسفة التاريخ من توينبي إلى توفلر.
الأستاذ الدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة القاهرة ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية؛ يقرأه ويكتب مقدمته في بضعة أيام وهو الفيلسوف الضليع
بفلسفة التاريخ منذ الفكر الشرقي القديم وحتى فلسفة المستقبل. فهاكم التقديم بقلم الأستاذ الدكتور مصطفى النشار وله خالص الشكر والتقدير.
تقديم
” لاشك أن فلسفة التاريخ من أهم فروع الفلسفة التطبيقية رغم أنها قد تكون أكثرها التصاقا بالفلسفة النظرية ؛ وذلك لأنها تقدم مايمكن أن نطلق عليه ميتافيزيقا التاريخ ؛ ففلاسفة التاريخ يقدمون رؤى للتاريخ تتميز بالشمول والكلية حيث أنهم لايتوقفون كثيرا أمام أحداث التاريخ الجزئية بل يعنيهم فى المقام الأول النظر فيما وراء هذه الأحداث وماترتب عليها من نتائج ومامدى تأثير هذه الأحداث فى المسار الكلى لتاريخ الانسانية ، إن فلاسفة التاريخ ببساطة يهمهم قراءة مغزى التاريخ ، ماقبل الأحداث ومابعدها ، هم لايتوقفون عند أحداث الماضى الجزئية إلا بقدر مايوضح ويفسر رؤيتهم الكلية لمسار التاريخ وكذلك لايعنيهم الأحداث التاريخية الحالية إلا باعتبارها كاشفة عن المسار المستقبلى للتاريخ .
إن فلاسفة التاريخ هم من يكشف عن المغزى الحقيقي لأحداثه ، وبدون تلك الرؤى الفلسفية الكاشفة عن المغزى النهائي للأحداث التاريخية لاقيمة للتاريخ ؛
إذ ماقيمة أن نحفظ الأحداث التاريخية وتسلسلها دون التساؤل عن مغزاها ومايمكن أن نستفيده منها ؟! ومن هنا قيل بحق لامنفعة للتاريخ إلا بفلسفة التاريخ . إن الحافظ لأحداث التاريخ وحتى المؤرخ لها سيصبح ” كالحمار يحمل أسفارا ” إن لم يتساءل عن مغزى هذه الأحداث التاريخية وعن العبرة التى تكمن وراءها . ومن هنا نكتشف عبقرية ابن خلدون الذي يعتبر – فى اعتقادي- هو المؤسس الأول لفلسفة التاريخ حينما أطلق على كتابه الضخم فى التاريخ ” كتاب العبر ..” وقد استلهم هو نفسه هذه العبر وكتب من خلالها ” المقدمة ” الشهيرة التى اعتبرت من جانب الكثيرين أعظم كتاب كتبه انسان ، تلك المقدمة العلمية التى أسست لعدة علوم منها علم التاريخ وعلم العمران وعلم الاقتصاد السياسي فضلا عن تأسيسه لفلسفة التاريخ باعتبارها قراءة شامله للتاريخ ورؤية لكيف تتطور المجتمعات البشرية وتبنى حضاراتها وكيف تبدأ هذه الحضارت حضارة بعد أخرى وكيف تضمحل وتذبل لتسلم كل دورة حضارية إلى أخرى تتلوها .. وهكذا ..
إن فلسفة التاريخ فى اعتقادى – كما فى اعتقاد الكثيرين من فلاسفة التاريخ – هى المعنية بالقراءة الأهم للتاريخ وهى ماتكشف لنا بالفعل عن أهمية التاريخ ومغزاه فضلا عن التنبؤ بمسار التاريخ فى المستقبل . إنها اذن لاتتوقف عند قراءة أحداث الماضى والحاضر بقدر ماتأخذ منهم العبرة متوجهة إلى اللحظة الأهم أى أحداث المستقبل وماذا ستكون عليه التطورات المستقبلية ..
ومن هنا تكمن أهمية معرفة النظريات المفسرة للتاريخ لدى فلاسفة التاريخ مثل النظرية الدورية ونظرية التقدم ونظرية التحدى والاستجابه .. الخ. ؛ فمن شأن هذه النظريات المختلفة أن تلقى أضواء كاشفة على أحداث الماضى والحاضر وفى ذات الوقت تستشرف آفاق المستقبل واحتمالات سير الأحداث فيه ، بل تتنبأ بالفعل بالكثير من هذه الأحداث .
ولذلك فمن الأهمية بمكان الاهتمام بهذا الفرع من فروع الفلسفة وخاصة فى وطننا العربي وعالمنا الاسلامي ، فنحن أمة درجنا على تقديس الماضى ونحب للأسف العيش فيه متناسين أن الماضى مضى وانتهى وأن الحاضر مآله إلى التحول إلى أحداث ماضية وأنه لايمكننا أن نكون فعالين وصانعين للتقدم إلا باستشراف آفاق المستقبل ومعرفة ممكناته وأحداثه لنستعد لها و لنتفاعل معها تفاعلا ايجابيا نكون سباقين فيه إلى الفعل ولسنا منتظرين ماذا سيُفعل بنا !!
إن علينا أن نكف عن تقديس الماضى ومحاولة احيائه لأن هذا مسار محكوم عليه بالفشل ، كما أن علينا أن نكف عن الاكتفاء بالنظر إلى ماتحت أقدامنا متشبثين باللحظة الحاضرة لأن الأحداث العالمية والقوى العالمية المحركة لها سرعان ماتدهس الحاضر وتتجاوزه محاولة تحقيق أهدافها الخاصة فى السيادة والهيمنة وان لم نكن قادرين على قراءة ذلك والوعي به والاستعداد له سنكون من بين ماتدهسهم الأقدام .. وكم يؤلمنى قول القائل أننا أمة لاتفكر فى المستقبل ولاتهتم به وغير مستعدة له وليس لديها علماء مستقبليات ولاعلما للمستقبل..الخ!!
وليس أفضل من الرد على هذه المقولات المحبطة إلا هذا الكتاب الذي بين أيدينا وأمثاله ؛ فلقد بدأنا نهتم منذ فترة ليست بالقليله بالمستقبليات عموما وبفلسفة التاريخ خصوصا وهى من الفروع الفلسفية المهتمة كما سبقت وأشرت بالتنبؤ بالمستقبل وتقديم الرؤى التنبؤية حول مسارات التحولات التاريخية والحضارية .
إن هذا الكتاب الذى أسعد وأتشرف بتقديمه للقارئ العربي اليوم هو أحد تجليات هذا الاهتمام بالقراءة الشاملة للتاريخ وأحداثه ومساراته حيث يقدم لنا مؤلفه الدكتور قاسم المحبشى عرضا وافيا وشافيا لأهم ماقدمه فلاسفة التاريخ المحدثين والمعاصرين من رؤى ونظريات مفسرة للتاريخ ورؤى هؤلاء الفلاسفة التنبؤية بما يمكن أن يحدث فى المستقبل من انهيار لحضارات وصعود أخرى.
وقد تميز هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعدة مميزات لعل أهمها هو سلاسة أسلوبه فى العرض الذي يكشف عن مدى وعي وفهم د. قاسم لكل ماعرضه فهما أدى إلى ذلك العرض الشيق الجميل الذي تضافرت فيه المعلومات التاريخية التى تشكل خلفية النظريات الفلسفية المفسرة للتاريخ والخلفية الفكرية لأصحابها مع النظريات الفلسفية التى توقف عندها لدى فلاسفة التاريخ الغربيين .
كما أن هذا العرض تميز لدى صاحبه حقيقة بغزارة المادة العلمية التى استند إليها ، ومن ثم فقد نجح فى المزج بين ماهو تاريخى وماهو فلسفي بشكل جذاب وممتع للقارئ فلا يكاد يشعر بالملل لا من المعلومات والخلفيات التاريخية التى يقدمها ولا من النظريات الفلسفية التى آثر أن يتوقف عندها .
وقد تجلت شخصية مؤلفنا النقدية فى اطار عرضه لكل ماعرض له من نظريات فلسفية حيث ربط بين الماضى والحاضر منها وأوضح مايجمع بينها من خصائص كاشفا عن نقاط الضعف والقوة فى كل منها وموضحا القواسم المشتركة بين بعضها والبعض وكذلك مواطن الطرافة والاختلاف بينها بدون تكلف أو افتعال.
تحية لهذا الكتاب وصاحبه ، فقد استمتعت بقراءة مخطوطه ، واعتقد أن القارئ العربي العزيز سيستمتع بقرائته ليس على المستوى النظري والمعرفي فقط ، بل على مستوى الوعى بأهمية الاستفادة من الرؤى المطروحة بين دفتيه فى اعادة الوعى العربي بأهمية التاريخ وفلسفته من أجل تفاعل ايجابى مع مستجدات التفاعل الحضارى فى المستقبل القريب والبعيد .