د. قاسم المحبشى يكتب: من ينقذ الأرض من أخر الزائرين؟! (2 من3) جحيم الوجود اللا مفكر
تحدثنا فى الجزء الأول من هذا المقال فأوردنا ملاحظة أولية معن خاطر التنافس التقني، وانتهينا إلى طرح سؤال: ما هي حرية الأفراد والدولة في عالم مكبل بفيروس كورونا كوفيد-١٩ ومهدد بصارخ مجنون يحلق فوق رأسه؟، ونواصل فنقول:
إن فكرة الحرية التي تفرض نفسها بما تمارسه من إغراء , لا ريب أنها فكرة ساذجة, رغم ما تنطوي عليه من صواب بمعنى من المعاني.
إن هيدجر الوجودي قد وصل إلى حالة من اليأس في أواخر أيامه، حيث لم يخف عجزه عن تصور أي حلول لإنقاذ الإنسانية المعاصرة فكتب:
“لا شيء غير إله ينقذنا من جحيم الوجود اللا مفكر “عالم” التقنية”، ومع أن خوف الإنسان الأوروبي من الحرب النووية قد استؤصلت شأفته اليوم بمعنى من المعاني, فأن مصادر القلق والخوف ما تزال قائمة في مظاهر عديدة, الخوف من التلوث البيئي, الخوف من أن يؤدي هذا التمركز, للعالم في مدينة كونية واحدة, وهذا الحضور للعالم المنقول بسرعة الموجهات الكهرطيسية إلى نوع من الانحباس، والاستلاب للشخص الإنساني في العالم المتحول إلى شبه مقصورة هاتف.. وهذا ما اسماه “فيريليو” بـ “تلوث المسافات ” وسيناريو تدمير الذات.
أما المحلل النفسي “دانييل سيبوني” رغم ما يبديه من تفاؤل بالقرن الواحد والعشرين بما سيحمله من قفزة نوعية وتحول في علاقة الإنسان بالعالم وإعادة تأويله, بما يبعث على تجدد الدهشة لا القلق فقد انتهى إلى القول:
” إن كان هناك ثمة خطر يهدد الإنسان في المستقبل, فهو نفس الخطر الذي واجهه الإنسان الذي بني في الماضي برج بابل, أي خطر بناء صرح توتاليتاري ثم انتظار الخلاص بعد ذلك, فالالم رفيق درب دائم للإنسان في مواجهته مع ذاته ومواجهته مع الآخرين, والحياة هي غريزة تفكيك مثلما هي غريزة بناء.”
لا ريب أن الدرس البليغ الذي مهر بميسمه العميق فلسفة القرن العشرين – سيما الوجودية – هو أن التفاؤل والتشاؤم موقفان لا يشرفا الفكر الأصيل، ففي عالم يشوبه الخير والشر، وفي شرط إنساني لاينكر فيه تأثير الحتمية كما لا تنكر فيه وثبة الحرية، فمن السذاجة والخبل القول بأن التاريخ يسير نحو المستقبل، لأن ذلك يعني جهل مكر التاريخ وبطشه الفاجع وطبيعته العصية.
كما أن المؤقف المتشائم الذي يرى أن كل شيء اخفاق وفشل وعبث وأن كل شيء يسير إلى الزوال, هو تجديف يسيء إلى الفرح والجمال والنبل وعظمة الإنسان، وطاقاته الخلاقة وهي تزدهر في العالم، وتبرره، وتٌكسب الحياة معنى وأمل حتى من وجهة نظر وضعية تفاؤلية محضة.
إذ أن الانسان ليس لديه الدربة الكافية على استعمال القسوة وعلى احتمال الشقاء فحسب, بل أثبت التاريخ الإنساني أيضا أن في مكنة الطاقة البشرية أن تبدع عالما متألقاً بالجمال والمجد الرفيع.
نعم يمكن للإنسان ذلك إذ كانت الشروط الاجتماعية والتاريخية للحياة، منهجية عقلانية إنسانية، وليست تلك القائمة على ايديولوجيا الربح والمصلحة المادية والاستهلاك السريع, ولكنها لا تعير الانسان وحريته وقيمه الروحية والمعنوية أي وزن يذكر, (الانسان ذو بعد واحد) إذ أن جماع عبقرية هذا النمط من العلاقات يتمثل في ابتداع الوسائل ومراكمتها بصورة جنونية دون معنى أو غاية, اللهم غاية الأداتية والاستهلاك الآني, كما عبر “هابرماز” في كتابه المعنون: “العلم والتقنية كايديولوجيا”
وهذا ما أكده عالم البيولوجيا الشهير “جاك تستار”حيث يرى أن الكرة الأرضية ستتفجر تحت وطأة التلوث, فيما إذا قررت الكائنات البشرية المتزايدة في آسيا وأفريقيا إن تعيش في المستوى نفسه من الحياة التي يعيشها اليوم الأمريكيون, ولكن بما أنه ما منطق, غير منطق القوة العارية يستطيع أن يمنع آهل الجنوب من التطلع إلى تقليد أهل الشمال في مستوى حياتهم فانه لا يبقى من حل أخر سوى أن يخفف أهل الشمال من مستوى حياتهم ويتنازلون طوعا عن أنانيتهم”
وهكذا تطلعت الصين إلى تقليد أمريكا في بناء محطة فضائية صينية في فضاء الكرة الأرضية المباح لمن يستطيع الوصل اليه.
وهذا هو الصراع الجوهري في العالم المعاصر بين قوى الهيمنة العالمية الراهنة إذ كتب المفكر الصيني (لاوسي) على خلاف سابقيه الأمريكيين :
“بالنسبة لنا نحن الصينيين فالظاهرة التي يسميها الغربيون (بالعولمة) أو (الكونية) لا تعني شيء غير الأهمية المتنامية لآسيا في التجارة العالمية وبالمحصلة تؤكد وضعها المركزي في العلاقات الدولية.
فنحن نشهد اليوم عودة لآسيا، وللصين بصفة خاصة وبنظرة عامة نجد أن تنمية الاقتصادات الآسيوية أقوى من حالة التقدم الدولي على الرغم من بعض التراجع في عام (1996) فإن المعدل السنوي لنمو الأقليم الآسيوي هو 7.4% أي أكثر من ضعف معدل نمو المتوسط العالمي الذي يدور حول نسبة 2,7%.
ومن هنا يتوقع أن الدول الآسيوية مجتمعة تتجاوز أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية معاً في السنوات العشرين القادمة.”
بهذه اللغة الحازمة الصارمة استهل لاوسي مقالة المعنون: “نعم للعولمة …. لا للغربنة”، والمنشور في المجلة الثقافية العالمية، (ص60) ثم ما لبث أن شن هجوماً عنيفاً على الطريقة التي تمثل بها الولايات المتحدة الأمريكية العالم حيث قال:
” أن تمثيلنا للعالم مختلف جوهرياً عن النظرة الأمريكية، ويبدو لنا أن أمريكا تنظر للعالم كمجموعة من السيادات المهذبة، يفصلها البحر أو الجبال التي يصعب عبورها بسيادة مهذبة كسيادتهم.. أما نحن الصينيون على العكس الأمريكيون، نعتقد أن العالم سهل كبير تحارب أمريكا لفرض تفوقها عليهِ، وهي في فرضها لهذا التفوق تسعى لسلب الآخرين منه.”
ويشير إلى طبيعة تلك الاختلافات الجوهرية بين الثقافة الصينية وبين الثقافة الأمريكية، وفيما يخص الدولة والفرد والمجتمع والحرية والعدالة …
“ففى حين أنه في الفكر الغربي تعمل الدولة على حماية حقوق الفرد في الحياة والحرية والملكية، فبالنسبة لنا نحن أحفاد كونفوشيوس يبدو مفهوماً كهذا مدعاه للدهشة ناهيك عن كونه غير قابل للإدراك “.
والفرد في الصين يعد دائماً جزا من مجموع، وتعد المصلحة الفردية تابعة للمصلحة الاجتماعية، واضح أن (لاوسي) لا يعبر عن وجهة نظر مجرد، بل يكشف عن حقيقة فرق قائم بالفعل، وحينما تتحدث الصين ينبغي للعالم أن ينصت، وينبغي على أمريكا بالذات أن ترهف السمع، فالصين لا ترى في العولمة هيمنة النمط الأمريكي، بل ترى فيها تعزيز قوة الصين وآسيا على الصعيد العالمي، هنا تدخل العولمة محك المواجهة الحقيقية وتواجه عثرات يستحيل تجاوزها أبداً في المستقبل القريب.
وفي خاتمة خطابه يؤكد (لاوسي) لو أن العولمة لها مضمون (جيوبوليتكي) كوني فأن عليها أن تقوم بالضبط على ما يأتي: “فتح الصين على العالم ، والعالم على الصين ، وأي شيء خلاف ذلك سنكون مضطرين للتعامل معه كنبرة دعائية فجه، تختفي خلفها رغبة الغرب في إخضاع بقية الكوكب، كما ينبغي على الأمريكيين أن يدافعوا عن المصالح التجارية بشكل صريح بدلاً من الاختباء وراء ستار من الدخان الأخلاقي المستعار في حديثهم عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان.”
ربما وصلت الرسالة الصينية إلى الإدارة الأمريكية متأخرة، وهذا ما تشي عنه كلمة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن البارحة في إجابته ماذا بوسع أمريكا فعله في مواجة خطر الصاروخ الصيني المنفلت من عقاله؟ إذ قال:
“إنه لا توجد خطة في الوقت الحالي لدى بلاده لإسقاط بقايا صاروخ صيني تائه من المتوقع أن يدخل مرة أخرى الغلاف الجوي نهاية هذا الأسبوع وأضاف بلغة شبه ساخرة من خيبة التقنية الصينة أن على من يريد الصعود إلى الفضاء أن يتأكد من سلامة أدواته وقدراته على السيطرة عليها.”
هكذا إذن دخلنا قرن الاختيارات الصعبة بالنسبة لأهل الشمال والجنوب فالكوكب الأرضي صار لأول مرة في تاريخ الكون في مهب العاصفة، وذلك هو ما يبقي باب الأمل مفتوحا فالإنسان مسير لا بظروفه وحدها بل كذلك بوعيه, والقرن الحادي والعشرين سيكون قرن الوعي العقلاني الإنساني أو لن يكون! .