د. ناجح إبراهيم يكتب: القدس.. محور الصراع وبداية الحل
بكلمات للشاعر الراحل نزار قبانى استهل، د. ناجح إبراهيم مقاله المعنون بـ “القدس.. محور الصراع وبداية الحل” ، المنشور بجريدة الوطن، وفى فقرة تالية يورد كلمات الأمام الأكبر االشيخ أمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر التى يقول فيها: منذ سنوات طوال مناهج التعليم لدينا عاجزة عن تكوين أى قدر من الوعى بقضية القدس وفلسطين، ووسائل إعلامنا لا تتحدث عنها إلا لماماً عبر خبر أو تقرير رتيب من مراسل.”
وما بين بكاء الشاعر وتنبيه الأمام، يحاول د. ناجح أن يرسم ملامح المشهد الحالى المحزن الحزين عن القدس، ومعاناته، وفى التالى نص المقال:
بكيت حتى انتهت الدموع، صليت حتى ذابت الشموع، سألت عن محمد فيك وعن يسوع، يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء، يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء، يا قدس يا منارة الشرائع، يا طفلة جميلة محروقة الأصابع، حزينة عيناك يا مدينة البتول، يا واحة ظليلة مرّ بها الرسول، حزينة حجارة الشوارع، حزينة مآذن الجوامع، يا قدس يا جميلة تلف بالسواد، من يحمل الألعاب للأولاد، فى ليلة الميلاد، من يوقف العدوان، عليك يا لؤلؤة الأديان، من ينقذ الإنجيل، من ينقذ القرآن، من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح، من ينقذ الإنسان.
كانت هذه أروع كلمات الشاعر العربى العظيم نزار قبانى الذى خلا الزمان اليوم من مثله، لا أحد سيوقف العدوان المتكرر على القدس الشريف، وكيف يقف العدوان وكل شىء فى عالمنا العربى والإسلامى يبعدنا عن القدس وقضيتها، وصدق الإمام الطيب الذى قال منذ عدة سنوات فى مؤتمر القدس الذى شرفت بحضوره وكان الفعالية العالمية العربية الوحيدة عن القدس: «منذ سنوات طوال مناهج التعليم لدينا عاجزة عن تكوين أى قدر من الوعى بقضية القدس وفلسطين، ووسائل إعلامنا لا تتحدث عنها إلا لماماً عبر خبر أو تقرير رتيب من مراسل»، وقال وقتها «كل احتلال إلى زوال وإن بدا وكأنه أمر مستحيل»، ولذا قرر المؤتمر وقتها تدريس مقرر سنوى عن فلسطين والقدس فى المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية الأزهرية.
قضية القدس، التى بناها اليبوسيون العرب المنحدرون من شبه الجزيرة، هى لب الصراع الإسرائيلى، فالقدس من أعرق مدن العالم جميعاً وعمرها 50 قرناً وهى موطن الأنبياء جميعاً وفيها مسرى الرسول محمد ومنها صعد عيسى إلى السماء.
وقد رضى العرب بشرق القدس فقط ولكن إسرائيل تريدها كلها بل وتريد طرد الأسر العربية القليلة الموجودة فيها وهدم المسجد الأقصى وقد مضت حلقات خطتها إلى آخر المدى وها هى تضيق بأقل من ثلاثة آلاف فلسطينى فى حى الشيخ جراح وتطردهم بالتدريج بدعوى أن هذه الأرض تملكها مؤسسات إسرائيلية احتالت بالخديعة والكذب على هذه الأراضى.
وأهم عائلة تقرر طردها هى عائلة نبيل الكرد الذى يبلغ عمره 76 عاماً والذى يقول «أنا هون ربيت كبرت، رحت المدرسة، وهون تخرجت من الجامعة، وهون تجوزت وخلفت، الوطن الذى عشت فيه هذا البيت كل ذكرياتى فيه، لا أتصور حالى خارج القدس ولا خارج هذا البيت بأى حال من الأحوال، والله ما أنا طالع من بيتى إلا على المقبرة»، كلمات موغلة فى الصدق مع الله والوطن.
وقد بدأ حى الشيخ جراح تنظيم فعاليات ضد تهجير هذه الأسر تصدى لها قطعان المستوطنين بالضرب والسحل ومعهم الشرطة الإسرائيلية حتى مر شهر رمضان ليشهد منع أكثر الفلسطينيين من الصلاة فى الأقصى أو ضربهم واعتقالهم، فانطلقت شرارة الأحداث الكبرى التى شملت غزة والأراضى الفلسطينية كلها وسقوط عشرات الضحايا والشهداء.
اسم حى الشيخ جراح شاهد وحده على اغتصاب إسرائيل للأرض، حيث يعود نسبه فى أرجح الروايات إلى الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحى، وهو الطبيب الخاص للقائد العظيم الرحيم فاتح القدس صلاح الدين الأيوبى، الذى يشتمه البعض الآن لأغراض فى نفوسهم.
هذا الطبيب سكن واستقر فى هذه المنطقة وبنى مسجداً وضريحاً له فيها وأوقف فيها وقفاً كبيراً على طلاب العلم وأوجه الخير، وهذا الحى بالذات تستهدفه إسرائيل وقطعانها من المستوطنين المتوحشين بتهجير الفلسطينيين وزرع 200 وحدة استيطانية تستكمل تحويل القدس الشرقية إلى مدينة يهودية خالصة بحيث يحاصر المسجد الأقصى من كل ناحية.
يمكنكم سؤال أى مستوطن إسرائيلى: أين ولد جدك، سيكون خارج فلسطين، واسألوا أى فلسطينى عن مفتاح بيته الذى هجر منه بعد نكبة 48 سيعطيه لك.
لقد أتانا الخصم من ثغور تركناها فاحتلها شذاذ الآفاق فى غفلة منا، فمائة عام من الدهشة والتباكى على القدس وفلسطين تكفى وتزيد، والتاريخ لا يرحم المندهشين ولا المتباكين والطريق إلى فلسطين يبدأ بالتوحد معاً وألا نسدد خناجرنا إلى أنفسنا أو أوطاننا أو قومنا مهما كانوا.
لقد أخطأ أكثر العرب حينما اهتموا بتوجيه سلاحهم ونقدهم وحروبهم إلى بعضهم البعض أو إلى أوطانهم أو ظنوا يوماً أن تحرير فلسطين سيمر عبر الاغتيالات والتفجيرات فى بلادهم، كل الذين نجحوا فى تحرير فلسطين كانوا على سلام مع أممهم ورفقاء بوطنهم ومواطنيهم.
وليبدأ كل منا فى بناء وطنه لا هدمه وسد ثغراته والقيام بواجباته نحو دينه ووطنه، ولندعم جميعاً أهل القدس فهم الحقيقة الديموغرافية القوية على الأرض وهم الهوية المتحركة والحية والعصية على الطمس، وكل نداء فى مسجد أو قصيدة فى محفل أو ترنيمة فى كنيسة أو أغنية عن القدس مثل أغنية فيروز، التى لم تُغنّ مثلها حتى الآن والتى ألفها الأخوان رحبانى ولحناها وكلهم مسيحيون تعزز روح الصمود عند الفلسطينيين عامة والمقدسيين خاصة.
مضى ترامب وشارون وغيرهما وبقيت القدس حقيقة واقعة، وعلينا ألا ننظر لفلسطين من خلال منظور ضيق نحبه أو نكرهه، فلسطين أكبر من حماس وأكبر من السلطة الوطنية، فلسطين والقدس قضايانا جميعاً؛ قضية المسلم والمسيحى والإنسان الحر، قضية الحق والحقيقة والتحرر الإنسانى فى المقام الأول من آخر احتلال فى العالم كله.