د. ناجح إبراهيم يكتب: «تحية لروح ريان المغربي»
كتب د/ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان”تحية لروح ريان المغربي”وتم نشره في جريدة المصري اليوم وهذا هو نص المقال:
• طفل صغير لم يجاوز الخمس سنوات من بلاد بعيدة في المغرب العربي وحد المشاعر الإنسانية حوله في بلاد العرب بل تجاوبت أصداء الإنسانية في جنوب أوروبا حتى صار الطفل المغربي “ريان” عنواناً لملحمة إنسانية رائعة عنوانها “الرحمة” وشعارها “الإنسانية تجمعنا”, وحتى سخرت الدولة إمكانياتها من أجل إنقاذ طفل, ولم تتوان عن ضخ كل إمكانياتها لذلك في منظومة رائعة لو استمرت ستجعل الحكومات والدول أكثر رحمة ورفقاً.
• “ريان” الطفل الصغير أبكي القلوب القاسية, وحول الحجارة الصماء إلي ماء رقراق, وجمع المختلفين, ووحد المتخاصمين, وأوقف صراعات الديوك في البيوت حتى حين, الكل يترقب, ويدعو, ويرجو, ويأمل ويبكي.
• كتب صحفي مصري كبير في صفحته علي الفيس “يارب تأخذ من عمري وتعطي ريان ” عجبت لرقته الشديدة مع شدته مع من يختلف معه, كيف حول ريان الناس إلي كتلة دعاء ورجاء وترقب واحدة.
• العالم كله تقريباً عاش مع ريان محنته يوماً بيوم وساعة بساعة, كأنهم سقطوا في البئر مع سقوطه, وعانوا معه الجوع والعطش, وكابدوا الظلمة والألم والوحشة في البئر.
• ريان ذكر البعض بيوسف الطفل “عليه السلام” الذي ألقاه إخوته حسداً في الجب, ريان ألقاه الفقر والعوز والحاجة الذي يغمر هذه المناطق في المغرب فلا مياه صالحة للشرب والزراعة, ولكن آبار بائسة يحفرها الأهالي وبعضها يغلق مثل هذه البئر التي نزع غطاؤها لسبب أو لآخر فسقط الطفل المسكين فيها.
• ريان ومحمد الدرة وغيرهما، لهم سر بينهم وبين الله يطيب الله به ذكرهم أحياءً وأمواتاً, قصة كل واحد منهم قد تحيي موات أمة, قد توقظ ضمائراً قد ماتت, قد تحيي الشكر لقلوب جحدت الله طويلاً رغم طوفان النعم الغارقة فيها.
• قصة ريان هي قصة كل من مر بتجربة السجن في أي مكان, ريان كانت أمنيته أن يرتوي وأسرته من البئر, اسم ريان نفسه له دلالة, ريان وأسرته أصلاً لم يجدوا الماء وكانت أمه تقول كنا نتمنى أن نجد في هذا البئر من قبل شربة ماء, فبدلاً من منحه الحياة لنا منحنا الموت.
• ريان له سر مع الله, وهل وحد أحد العرب والعجم والمسلمون والمسيحيون واليهود والمتدينون والعلمانيون, واليساريون سواه, أي سر يا بني بينك وبين الله حتى تموت شهيداً ؟.. “وصاحب الهدم شهيد”، “والغريق شهيد” وحتى تودع الدنيا في موكب مهيب لم يحظ به بعض الرؤساء والملوك, وحتى ينعيك الديوان الملكي المغربي ويقدم الملك شخصياً عزاءه لأسرتك, رغم أنك من أبسط الأسر وأفقرها, وحتى ينعيك شيخ الأزهر الإمام الطيب, ويعزي والديك وملك المغرب وحكومته, ويقول في نهاية العزاء: “إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون” وينعيك الرئيس الفرنسي نفسه, والشيخ محمد بن راشد حاكم دبي, كل منهما بنفسه وليس عبر الكلمات الرسمية البروتوكولية, فضلاً عن ملايين البسطاء من كل الأجناس.
• خمسة أيام من دروس “ريان” كانت الأغلى والأسمى والأكثر تأثيراً من مئات الخطب الميتة, من مئات برامج التوك شو الكاذبة التافهة, من صفحات الفيس المنافقة أو الحمقاء أو الفاحشة.
• خمسة أيام في ظلمة البئر وسجنه جعلت كل الملحدين يفكرون في القبر وما قبله وما بعده, هذه الأيام القليلة أشعرت الملايين أن ريان ابنهم فكلهم كان ينتظر فرجه.
• قصة ريان تتكرر مع كل أم يدخل ابنها جراحة قلب مفتوح, أو ورم في المخ, أو انسداد معوي, وتظل أياماً بين الأمل والألم والخوف اللامحدود خشية أن تخرج الممرضة من غرفة العناية المركزة لتعلن وفاته, رعب ما بعده من رعب, وتنتظر وتدعو وتأمل أن تخرج الممرضة لتعلن أنه بخير ونجحت الجراحة ثم خرج من العناية, لكن كثيراً ما لا تتحقق مرادات نفوسنا البشرية, ويحدث ما كنا نخشاه لتقول الممرضة كلمة النهاية التي تحطم قلوب الأمهات والآباء أو الزوجات.
• كما حطمت نهاية “ريان” قلوب الملايين, نهاية “ريان” متوقعة لكل خبير ولكن الجميع كان يكذب نفسه ويرجو نهاية سعيدة صنعتها أحلامنا الوردية وآمالنا في فرحة لنا ولأسرة ريان.
• ما أجمل الإنسانية لو جمعتنا ووحدتنا, الإنسانية هي أقرب الطرق للولوج إلي الدين الصحيح, والرحمة والعفو والمودة هم أقرب الطرق الإنسانية لكي تكون متدينا بحق, إن لم تكن إنساناً, رحيماً, وعطوفاً وكريم النفس فلن تستطيع فهم مقاصد الشريعة ولا فقه الأولويات, لن تستطيع فهم الدين أو أن تحيا الدين بحق, لن تستطيع أن تلج باب الدعوة إلي الله إلا إذا كان قلبك مشحوناً بحب الناس جميعاً, بحب خيرهم وبرهم وصلاحهم حتى وإن اختلفوا معك في الدين والمذهب أو العرق.
• آه يا ريان رحمك الله حياً وميتاً فكم علمتنا من دروس, وكم صفيت قلوبنا وطهرتنا في خمسة أيام كانوا كالدهر كرباً وألماً, ولكنهم أناروا ظلمات التحاسد والتباغض والتشاحن, صبراً آل ريان, وكل ريان في الأرض وما أكثرهم وخاصة في بلاد العرب.