«يعيش المثقف على مقهى ريش مزفلط محفلط».. ومبدعة إماراتية تتغزل فى المكان
كتب: على طه
اعتماد على كتاب “مقهى ريش.. عين على مصر” للكاتبة ميسون صقر القاسمي، وهى كاتبة، ومبدعة إماراتية، تكتب الشعر والرواية، نشرت مجلة “اليمامة” السعودية، قسمات وملامح “فيتشرز” للمكان تغرى على القراءة، والسياحة فى وسط البلد، قلب القاهرة الخديوية، وملامحها التى صنعت كثير من القصص، وكانت مسرحا لقصص أكثر، وفى القلب منها مقهى “ريش”
وتناول كاتب الموضوه صالح الشحري، فى المقدمة ملمحا من سيرة القاهرة، التى بهرت كثيرا من الأدباء العرب، بتاريخها الثقافي والسياسي والأدبي، والذى أثار تفاعلات كثيرة في العالم العربي.
القاهرة التى سبقت إلى احتواء المطابع والمكتبات ودور الفن قبل غيرها من المدن العربية جعل لها سلطة ناعمة على الكثير من مثقفي العالم العربي.
وبعد هذه المقدمة انتقال كاتب الموضوع إلى مؤلفة كتاب “مقهى ريش” مؤلفة الكتاب الذى تناوله بالعرض، وهى، ميسون صقر القاسمي، فقال إنها كاتبة من دولة الإمارات العربية، تكتب الشعر والرواية، قضت أربع سنوات تبحث في تاريخ المكان القاهري.
طالع المزيد:
وأوضح أن ميسون بدأت بوثائق مقهى ريش الواقع في وسط المدينة، والذي لا زال صامدا في وجه التوحش الرأسمالي الذي حول الكثير من الأمكنة التي ارتبطت بتاريخ الثقافة والفن إلى مشروعات تجارية قبيحة، محت ذاكرة ثرية كانت تستحق البقاء و التخليد.
ومضى كاتب الموضوع ينهل من بحث ميسون صقر الإبداعى فى استحضار روح المكانن واستنطاق المكان يقول الآتى:
بدأت ميسون عملها بمراجعة وثائق مقهى ريش، التي تجمعت منذ إنشائه عام 1908, ورغم كثرة الوثائق وأن كثيرا منها لا تلفت الأنظار عادة إلا أن المؤلفة اكتشفت من خلالها علاقة المقهى بالسلطة، والقوانين التي ترخص لعمل المقاهي والمطاعم والمسارح عبر العصور المختلفة التي مر بها المقهى، بدءا من عصر كانت فيه مصر إحدى ولايات الدولة العثمانية ثم تحولت إلى محمية بريطانية حتى عصر الاستقلال.
وجذبتها تلك الوثائق إلى البحث عن تاريخ المقاهي الشهيرة المجاورة ثم تاريخ القاهرة في عصر إسماعيل، الخديوي إسماعيل أراد أن يحول القاهرة إلى باريس على ضفاف النيل، فبدأ مشروعا عمرانيا مهما استقدم لأجله كبار المعماريين الفرنسيين والايطاليين.
وكثير من المعماريين الفرنسيين ارتبطت أسماؤهم بإنجازات معمارية في باريس والقاهرة في آن، وقد بذلت المؤلفة جهداً كبيراً في التأريخ لمعمار قاهرة إسماعيل، وتاريخها الاجتماعي والإنساني، تحدثت عن شوارعها وعماراتها، وتصميم ميادينها ومبانيها الشهيرة، ثم عن سكانها، مشاريع إسماعيل الطموحة اجتذبت المغامرين الأوروبيين وأصحاب رؤوس الأموال، أقاموا المقاهي والمباني والجسور والمتاحف، وأصبح عددهم في قاهرة إسماعيل أكثر من عدد السكان المصريين.
ودامت هذه الصورة كثيرا، في عام 1925 اختيرت القاهرة كأجمل مدينة في البحر الأبيض المتوسط. لكن إسماعيل دفع ثمنا كبيرا لطموحاته، تعرضت لها الروائية رضوى عاشور في روايتها الشهيرة « قطعة من أوروبا», و في النهاية جاء الإنجليز ليضعوا أيديهم على مصادر الثروة في مصر ليستردوا ديونهم التي عجز إسماعيل عن سدادها وهكذا دخلت مصر بالتدريج في عصر الاستعمار الإنجليزي.
بدأت حكاية مقهى ريش بمالك من المجر ثم تنقلت بين مجموعة من الملاك يونانيين وفرنسيين ثم تملكتها عائلة مصرية، وذلك بعد هجر كثير من الأوروبيين لمصر بسبب التأميم وبسبب العدوان الثلاثي.
أما المقهى الذي أخذ اسمه من مقهى باريسي شهير فقد تحول من مقهى إلى مقهى ومطعم إلى مقهى ومسرح، ثم إلى مقهى وبار، وفي الفترة التي احتوى فيها على مسرح ارتبط اسمه بالكثير من الأسماء الفنية الكبيرة، فقد غنت فيه أم كلثوم مرارا منذ كانت تلبس ثيابا بدوية وترافق والدها وكأنها صبي إلى حين أن أصبحت الأولى في فن الطرب.
وعلى مسرحها قدمت مسرحيات للريحاني ويوسف وهبى وفاطمة اليوسف، وغنى عليه الشيخ عبده الحامولى والشيخ أبو العلا محمد ومحمد عبد الوهاب.
ومن الطريف ما كشفت عنه المؤلفة من مراسلات مطولة هدفها الحصول على رخصة المسرح، فمرة ترفض السلطات البريطانية خشية على الجيران من الإزعاج، فيقوم مالك المقهى بتحصيل توقيعات الجيران بالموافقة على إقامة المسرح، ثم يُرفض الترخيص بسبب أن الموقع يقع مواجهة لفندق سافوي حيث استقرت قيادة أركان الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية.
والظاهر أن المقهى بدأ نشاطه الفني بلا ترخيص فترة من الزمن. تحدث الكتاب عن تصميم المقهى الداخلي والتغيرات التي استحدثت فيه مع الوقت.
مع الوقت أصبح المقهى قطعة من تاريخ مصر، الأضرار التي صدعت المبنى في زلزال القاهرة الذي حدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي كشفت عن وجود نفق سري له مدخل من المقهى ويقود إلى مخرج من العمارة يصلح لتمرير الأشخاص الذين يحتاجون إلى الاختفاء من المقهى دون إثارة الريبة.
كما وجدت طابعة قديمة، وقد ألهم الممر السري والطابعة الكاتب أحمد مراد أحداث روايته المسماة «1919» التي تناولت كون الموقع مكانا سريا لطباعة المنشورات التي تحرض على الاستعمار الإنجليزي خلال ثورة 1919.
كان مالك المقهى ميشيل بوليتس آنذاك يوناني يكره بريطانيا فأفسح مجالا لكي يعمل الثوار من خلال المقهى، كما أن منظمة اليد السوداء التي يعتقد أنها كانت ذراعا عسكريا لحزب الوفد استغلت المكان في عمليتها الشهيرة، حيث قام أحد أعضائها طالب الطب عريان يوسف سعد بترصد رئيس الوزراء المصري يوسف وهبة، اعتبر الشعب المصري وهبة خائناً؛ لأنه قبل تشكيل الوزارة ليتفاوض مع لجنة ميلنر الانجليزية التي جاءت للتفاوض على مستقبل مصر، وكان الشعب المصري يرفض أن يتفاوض أحد عنه إلا الزعيم سعد زغلول والوفد الذي رافقه لعرض قضية مصر في مؤتمر باريس الذي عقد لترتيب الوضع الدولى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
لم تنجح محاولة الاغتيال، وذكر المتهم أنه قام بالعملية باعتباره قبطيا حتى لا يتم اغتيال رئيس الوزراء القبطي بيد مسلم فتحدث فتنة طائفية كان البريطانيون حريصين على إذكائها. بعد حوالي مئة سنة استضاف مقهى ريش ندوة ثقافية جمعت بين حفيد طالب الطب وحفيدة رئيس الوزراء.
وكما في المقاهي الباريسية التي ارتبط بعضها بأسماء مشاهير مرتاديها من الكتاب والشعراء وخرجت منها الكثير من الحركات التحديثية والأعمال الأدبية، ارتبطت مقاهي القاهرة بمجموعة من الأدباء، مقهى متاتيا في ميدان الأوبرا مثلا كان مكان جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المفضل ومن حولهم زعماء الثورة العرابية.
أما أشهر الأدباء العرب الذين ارتبطت أسماؤهم بالمقاهي فكان نجيب محفوظ، كان له ندوة بمقهى أوبرا، ثم انتقل إلى مقهى ريش لتستمر ندوته الأسبوعية عصر الجمعة سنوات طوالا ، وانتقل إلى مقاهٍ أخرى خلال فترة إغلاق مقهى ريش التي أعيد فيها تأهيله، عاد بعدها نجيب محفوظ إلى ريش.
وعمل ملاك المقهى على استعادة دوره الثقافي. حاولوا جمع الأدباء في ندوة الجمعة على الإفطار، واستضافوا مناسبات للتوقيع على الكتب، ومناسبات الجامعة الأمريكية الثقافية، وحرصوا على تزيين جدرانه بلوحات تمثل الأحداث الشهيرة في المقهى ومرتاديه. واجتذبوا شبابا كثيرين من الأجيال الجديدة خلال التحركات التي أنهت حكم الرئيس مبارك.
كان المقهى موقعا للكثير من الأحداث الهامة، فمنه بدأت الوثيقة الشهيرة التى قدمها المثقفون المصريون إلى الرئيس السادات اعتراضا على حالة اللا سلم و اللا حرب في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر، وكان في رأس قائمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، كما انطلق منه تجمع للمثقفين المصريين المتظاهرين أمام السفارات الغربية إدانة لاغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.
حاولت السفارة الإسرائيلية في مصر استثمار جلسات المثقفين في المقهى للتعارف والحوار، ولكن المقهى رفضهم، وحين جاء السفير الاسرائيلي بصحبة المسرحي علي سالم لزيارة المقهى قام مالكه مجدي عبد الملاك ميخائيل – وكان طيارا شارك في حرب أكتوبر- ومن حوله الأدباء والمثقفون المتواجدون بطرد السفير.
كان المقهى عنوانا لكثير من الأدباء، بعضهم لم يكن له بيت دائم يؤويه مثل أمل دنقل الذي كتب على طاولاته قصائده التحريضية التي أزعجت السلطات وأشهرها قصيدتا الكعكة الحجرية، وقصيدة لا تصالح، وكتب نجيب سرور عنه ديوانا كامــلا عنوانـــه « بروتوكولات حكماء ريش» . ولم ينج مثقفو مقهي ريش من هجاء الشاعر أحمد فؤاد نجم:
«يعيش المثقف…على مقهى ريش
مزفلط محفلط… كثير الكلام
عديم الممارسة… عدو الزحام
بكام كلمة فاضية… وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام».
كثير من حكايات وشخصيات مقهى ريش استلهما كتاب لتدور حولها أعمال أدبية مثل رواية الكرنك لنجيب محفوظ، وكثير من الكتابات الصحفية كتبت فيه، إلى ذلك فقد أسست فيه دوريات صحفية خارج الصندوق مثل جاليري 68 التي كانت تحتوي على مادة ثقافية ثرية. يلاحظ كثيرون أن أصحاب الفكر اليساري كانوا الأكثر تواجدا، ويدافع البعض بأن ذلك كان الظرف الطبيعي في الستينيات ولكن بعض الرواد كانوا من خريجي الأزهر ودار العلوم”.
وانتهى كاتب الموضوع إلى ترشيح الكتاب للقراءة فقال:
“كتاب جميل وإن كان فيه كثير من التكرار، وهو يهم كل عشاق القاهرة، يفيد كل من يريد زيارتها ليحظى بسياحة ثقافية باذخة، وهو من الكتب التي تبث الحياة في حجارة المعمار لتكتسب ألقا فنيا وثقافيا يجعلها في حالة تكامل مع البشر والتاريخ، تكسوا الكلمات الصخر حياة وتبث فيه جمالا”.