د.قاسم المحبشي يكتب: الكولونيالية الجديدة وتغيير قواعد اللعبة (1من3)
تمهيد
تعد الكولونيالية الجديدة الملمح الأبرز في المشهد العالمي الراهن وتتمثل في الغزوتين الأوروأمريكية لأفغانستان 2001 والعراق 2003، والتدخل الروسي في سوريا 2015 وما تلاهما من تداعيات وأزمات بنيوية خطيرة اجتاحت المنطقة العربية فيما يسمى بثورات الربيع العربي والحروب الطائفية وصفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية التي يجرى تسويقها بوصفها الحل السحري للشرق الأوسط الجديد.
فما علاقة الكونيالونيالية بالاستشراف؟
وما الفرق بين الكولونيالية القديمية والجديدة؟
وكيف يمكن لنا فهم استراتيجيات قواعد اللعبة الجديدة؟
هذا هو ما سوف نحاول مقاربته في المقال، وما يتصل بها من علاقات وانساق ومواقف واتجاهات.
الاستشراق والكولونيالية:
بدأت مرحلة الكولونيالية الحديثة بحركة واسعة من الاكتشافات الجغرافية والعسكرية منذ أواخر القرن الخامس عشر، وازدهرت منذ أواخر القرن الثامن عشر، وذلك جنبا إلى جنب مع حركة الاستشراف الواسعة إذ غدا الاستشراق”المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تقارير حوله وإجازة الآراء فيه وإقرارها” وباحتلال نابليون مصرَ 1798م ترسخت مرحلة الاستشراق الكولونيالي المباشر التي استمرت حتى منتصف القرن العشرين إذ “أصبحت مكتبات أوربا تضم أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من المخطوطات العربية. ويكتب أحمد أمين “ًأن المستشرقين ألفوا في تاريخ الإسلام ما لا نظير له في مؤلفات المسلمين”( ويحصي الباحث عبد الله محمد نعيم ما ألفه المستشرقون من عام 1811 حتى 1950م بالشرق العربي وحده نحو ستين ألف كتاب”( ينظر، إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة السلطة الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1981، ص38).
هذه الحصيلة الهائلة من الخبرات والدراسات والمعلومات والآثار والمخطوطات والكتب وكل الكنوز التي تمت سرقتها أو تعرفها في الشرق، هي التي مهدت السبيل لكل الذين كتبوا عن الشرق والإسلام تمهيدا لغزوه واستعماره.
ويكشف المؤرخ الانجليزي توينبي بنفسه طبيعة المهمة التي كان يقوم بها في تعزيز الوجود الاستعماري الإنجليزي في بلدان الشرق العربي إبان مؤتمر السلام عام 1919 بقوله في كتاب (معارف):
“ذات يوم كان علي أن أسلم بعض الأوراق إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا آنذاك على إثر انتهاء أحد الاجتماعات الخاصة بالشرق الأوسط, إنني كثيراً ما رأيت لويد جورج وسمعته يتكلم، ولكن هذه كانت هي المناسبة الوحيدة التي قابلته فيها، ولقائي هذا معه لم يستمر أكثر من دقيقة أو دقيقتين، لكنه كان كاشفاً على نحو غير متوقع، إذ أنه عندما أخذ الأوراق مني وبدأ في تصفحها نسي وجودي، وهذا ما أسرني وبدأ يفكر بصوت مرتفع “ما بين النهرين… نعم.. نفط، ري: يجب أن نأخذ ما بين النهرين.. فلسطين.. نعم الأراضي المقدسة.. الصهيونية.. يجب أن نأخذ فلسطين.. سوريا.. ها.. ماذا في سوريا؟ ليأخذها الفرنسيون”.
ويعلق توينبي قائلا:ً “إن حوار لويد جورج الذاتي اللا واعي قد كشف عن معرفة ذكية لمزايا الأقطار العربية العثمانية السياسية الاقتصادية لكنه أهمل حقوق العرب أنفسهم وأمانيهم” ( ينظر, صدقي عبد الله حطاب, أرنولد توينبي, مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد الخامس، العدد الأول، أبريل – مايو، 1974، عدد مكرس لفلسفة التاريخ. ص295).
وبغض النظر عن صدق نيات توينبي أو زيفها فيما يخص حقوق العرب وأمانيهم، فهو لم يكن إلا مجرد خادم للإمبراطورية التي يقدم لها المعلومات والحقائق لاتخاذ القرارات ووضع الأهداف.
إن رئيس وزراء بريطانيا العظمى لويد جورج لم يكن يرى في الشرق العربي إلا أرض فراغ وطبيعة خصبة واعدة بالخيرات، وكأن المجتمعات القديمة هناك وكل ما فيها من البشر مجرد قطع من الحجارة يمكن رصفها بهذا الشكل أو ذاك حسب ما نريد.
هذه الشبكة من العلاقات والممارسات والنصوص والرموز تتوحد دائماً في مجرى التاريخ الطبيعي من حيث هي حملة الأغنياء والأقوياء الغالبين القاهرين في جميع الأزمنة إلى جميع إقطاع الفقراء الضعفاء المغلوبين المقهورين.
إنها حملة المال والسيف والعلم، على شرق النفط والري, والتخلف هذه العلاقة بين الشرق المتخلف والغرب المتفوق هي التي فض بنيتها المعقدة وأماط اللثام عن ديناميتها الخفية وتجلياتها المختلفة مدني صالح في كتابه المهم (بعد الطوفان) والذي يعد من جميع الوجوه أعمق نقد للاستشراق الغربي والاستشراق المعكوس، وذلك حينما صور العلاقة بين الغرب والشرق، بتعبيرها الرمزي الروائي بين روبنسون كروزو تمثالاً ورمزاً للغرب المتفوق حامل وسائل التحليل ومناهج الاستقراء وطرائق العلم الصحيح، وعامر الرأس بحكمتين: حكمة أبي الأنبياء إبراهيم وحكمة أبي الفلاسفة أفلاطون… وعامر البندقية بالبارود، وعامر الجيب بالذهب.. وبين فرايدي، فارغ الصدر والرأس واليد والجيب، الذي يرمز للشرق العاجز الضعيف المتخلف، الذي يخر راكعاً بين قدمي روبنسون كروزو طلباً للخلاص وامتناناً بالجميل واعترافاً بالفضل واستسلاماً لمشيئة الأقدار.
وكما هو واضح أعلاه كانت الكولونيالية الحديثة لا تخفي أهدافها في استعمار الشعوب الأقل تطورا بل تعلن أن ذلك واجبها وهذا ما عبر عنه المستشرق الألماني (لودفيج هيرمان فون) بعد زيارته للجزائر وتونس عام 1835 بقوله:
“إنهم يتحلون أكثر مَنا بمظهرهم وسلوكهم بهيبة الإنسان الفطري، ويفوقوننا من حيث السجايا البدائية، لكنهم لظروف معينة ظلوا جاثمين عند أول درجة من سلم الحضارة، بالنسبة لغرائزهم الطبيعية التي لا يتورعون عن إشباعها بفظاظة بل قل بوحشية رغم رقة شمائلهم.. أصبحوا جنساً منتكساً قاصراً عن تحقيق أي نوع من النهضة أو عن بعث أي ضرب من ضروب الحضارة، ولا سبيل لحضارة إليهم إلا إذا أُخضِعوا لهيمنة المسيحيين”.
ويتساءل هيرمان فون بكامل الدهشة: “كيف يمكن لمملكة تونس أن تصبح لو آلت إلى الأوربيين من ذوي الخبرة والاجتهاد، إن في وسع هذه البلاد الخصبة أن توفر العيش والنعمة لستة أضعاف عدد سكانها؟!”.
وينتهي المستشرق السابق إلى التصريح برغبته في حكم البلاد والعباد معلناً:
“إنه ليس هناك مهمة أنبل وأجمل من تنصيبه من قبل القوى الأوربية إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية ملكاً على شمال إفريقيا من حدود المغرب الأقصى إلى حدود برقة، وذلك إشفاقاً منها على هذا الربع المهمل”.
.. ويضيف: “وسينجح في تسخير كل حياته لتكوين البدو وترويض شعوب القبائل، وتسوية أوضاع أهالي المدن من المسلمين وفي حكم الجميع بقبضة من حديد.. وبتحقيق هذا العمل فإن هذا الأمير يصبح مؤهَّلًا لكي تطلق عليه أجيال الحاضر والمستقبل لقب المحيي إذ ويكون أجدر به من نابليون”( ينظر، علي شلق، كارل بروكلمان والاستشراق، مجلة الاجتهاد، بيروت العددان ( 50- 51) صيف 2001).
على هذا النحو تنتج القوة المعرفية التي تسوغها وتقويها وتعزز مواقعها ولا يهمها ما إذا كانت هذه المعرفة حقيقية أم باطلة. لأنها معنية بإنتاج ذاتها وإعادة إنتاج حقيقتها هي، وعلى هذا لم يكن بمقدور الاستشراق أن يأتي تعبيراً صادقاً عن الشرق بقدر ما كان تعبيراً عن الشرق كما يراه الغرب، أي الشرق المستغرب.
هكذا تم إخضاع الشرق العربي والسيطرة عليه وعلى مدى قرنين أو أكثر من الاستعمار الأوروبي لمعظم شعوب الوطن العربي بدأت حركات التحرر من الاستعمار وحق تقرير المصير في ظل احتدام الحرب الباردة بين القوتين النوويتين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا السياق ظهرت حركة ما بعد الكولونيالية باعتبارها مدلولا زمنيا للإشارة إلى وضع الدول والشعوب في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو مجال يُعنى بكيف غزت الدول الأوروبية ثقافات “العالم الثالث” وسيطرت عليها، وكيف استجابت تلك الثقافات من العالم الثالث وقاومت.
انتظرونا فى حلقة قادمة.