د.قاسم المحبشي يكتب: الكولونيالية الجديدة وتغيير قواعد اللعبة (2من3) ما بعد الاستعمار

فى هذه الحلقة نتناول ما بعد الكولونيالية / ما بعد الاستعمار، كنظرية وكدراسة لتعاملات سياسية وثقافية، وتمر بثلاث مراحل عامة، هي: الوعي – في البداية – بالدونية الاجتماعية والنفسية والثقافية لكون المرء في دولة مُستعمرة.الكفاح لأجل الاستقلال الإثني والثقافي والسياسي.

مظاهر الكولونيالية:

وتختلف مظاهر الكولونيالية عبر التاريخ باختلاف أدوات واستراتيجيات القوة ففي الأزمنة القديمة قبل الصناعية كانت أدوات الصراع وقواعد لعبته تتمثل في قوة العصبية والعقيدة والغنيمة والاستراتيجية بمعنى الحشد والقيادة، وكانت تلك القواعد متاحة بقدر متساوي عند جميع شعوب المعمورة القادرة على الفعل والتنظيم والحركة والغزو والسيطرة.

غير أن الأمر اختلف اختلافا جذريا منذ عصر النهضة الأوروبية وظهور الصناعة. إنه عصر الاكتشافات الفلكية والاكتشافات الجغرافية والإصلاح البروتستانتي وضروب الإبداعات الثقافية واختراع وانتشار الطباعة والسفينة البخارية والبارود، والبوصلة، وبروز الأمم الدول، على أسس قومية وبدايات الاقتصاد الرأسمالي وظهور المدن وبداية التمايز الاجتماعي والصراع الطبقي.

ومع الحداثة الغربية دخلت الكولونيالية مرحلتها الحديثة بالاستعمار المباشر للشعوب والبلدان الأقل تطورا في أسيا وأفريقيا وأمريكا واستراليا.

وحين كتب ماركس في وصف أهل الشرق يقول: (إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ينبغي أن يمثَلوا) وكان يرى أنه على “إنجلترا أن تحقق في الهند رسالة مزدوجة: الأولى تدميرية: والثانية إحيائية تجديدية، تدمير المجتمع الشرقي الفلاحي الآسيوي، وإرساء الأسس المادية للمجتمع الصناعي التجاري الغربي في آسيا” ( إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة السلطة الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1981، ص60).

إن هذه الرغبة في تمثيل الشرق، الذي يعجز عن تمثيل نفسه، هي رغبة نابعة من إرادة القوة، لأن من يمتلك القدرة على تمثيل الآخرين هو في وضع أقوى منهم، وقد كانت هذه هي رغبة كل إنسان غربي ومازالت، ويفتخر لورانس بأنه كان يمثل العرب في ثورتهم ضد الأتراك وفي كل المؤتمرات التي عقدت لغرض تقاسم (الشرق الأوسط)، (ينظر أعمدة الحكمة السبعة، دار الأفاق الجديدة بيروت غير مؤرخة, ص351).

وفي هذا السياق يمكن قراءة ما كتبه بلفور: “قبل كل شيء انظر إلى حقائق القضية، إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات.. لأنها تمتلك مزايا خاصة بها.. ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله فيما يسمى بشكل عام المشرق دون أن تجد أثراً لحكم الذات على الإطلاق.

كل القرون العظيمة التي مرت على الشرقيين انقضت في ظل الحكم المطلق والطغيان.. أهو خير لهذه الأمة العظيمة أن نقوم نحن بممارسة هذا النمط من الحكم المطلق، في ظني إن ذلك خير”( إدوارد سعيد، الاستشراق، ص65).

على هذا النحو الاعتباطي التسويقي الإيديولوجي يميز بلفور بين نمطين للكائنات البشرية: نمط الأمم الشرقية العاجزة بطبيعتها عن حكم ذاتها، ونمط الأمم الغربية المفطورة منذ انبثاقها على حكم الذات.

إن هذا المنطق الهيجلي التسويغي محكوم دائماً بمقدمة بديهية تقول: إن الشرق لو كان قادراً على حكم نفسه وتمثيلها لفعل ذلك، ومادام غير قادر فمن الخير له ولنا أن نقوم “نحن بالمهمة من أجله ومن أجلنا، (نحن في مصر لسنا من أجل المصريين فحسب مع أننا فيها من أجلهم، نحن هناك أيضاً من أجل أوربا كلها” كما كتب بلفور.

إن التنافس والصراع بين الدول الغربية على تقاسم تركة الرجل المريض في الشرق قد تم التعبير عنه بذلك الحشد الهائل من النصوص التي كتبها مستشرقون زاروا الشرق وكتبوا عنه سواء كانوا مستعمرين أو باحثين أو حجاجاً أو رحالة، أو مبشرين أو دبلوماسيين، أدباء، أو رجال دين أو سياسيين أو علماء لغة أو أنثروبولوجيين.

كل النصوص التي كتبت عن الشرق على اختلاف محتوياتها، كانت تصب في تلك الرغبة المتعطشة لمعرفة أحوال أهل الشرق ومرابعهم، كيف يعيشون، وكيف يمارسون حياتهم اليومية المباشرة في المنزل وفي الشارع وفي الجامع في الأرياف والمدن، كيف يعملون وينتجون ويأكلون ويسلكون ويتكلمون ويفكرون ويفرحون ويحزنون ويلعبون ويتحاربون، وما هي ردود أفعالهم إزاء المواقف التي تواجههم وما هي الدوافع التي تحركهم لماذا يتصرفون على هذا النحو أو ذاك.

هكذا غدت العلاقة بين الغرب والشرق، علاقة بين ذات فاعلة وموضوع منفعل، بين من يرى ويتأمل ويكتب ويفسر وبين من يبُسط موضوعاً للرؤية والتصنيف والتقييد والحكم بين المستشرق الآتي من بلاد الغرب المزدهر، والشرق المتخلف الضعيف العاجز الذي ينتظر من يؤخذ بيده ويحييه، وهذا ما عبر عنه المستشرق الألماني (لودفيج هيرمان فون) بعد زيارته للجزائر وتونس عام 1835 بقوله: “إنهم يتحلون أكثر مَنا بمظهرهم وسلوكهم بهيبة الإنسان الفطري ويفوقوننا من حيث السجايا البدائية، لكنهم لظروف معينة ظلوا جاثمين عند أول درجة من سلم الحضارة، بالنسبة لغرائزهم الطبيعية التي لا يتورعون عن إشباعها بفظاظة بل قل بوحشية رغم رقة شمائلهم.. أصبحوا جنساً منتكساً قاصراً عن تحقيق أي نوع من النهضة أو عن بعث أي ضرب من ضروب الحضارة، ولا سبيل لحضارة إليهم إلا إذا أخضعوا لهيمنة المسيحيين”.

ويتساءل بكامل الدهشة، كيف يمكن لمملكة تونس أن تصبح لو آلت إلى الأوربيين من ذوي الخبرة والاجتهاد، إن في وسع هذه البلاد الخصبة أن توفر العيش والنعمة لستة أضعاف عدد سكانها، وينتهي إلى التصريح برغبته في حكم البلاد والعباد معلناً: “إنه ليس هناك مهمة أنبل وأجمل من تنصيبه من قبل القوى الأوربية إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية ملكاً على شمال إفريقيا من حدود المغرب الأقصى إلى حدود برقة، وذلك إشفاقاً منها على هذا الربع المهمل” ( مصطفى النفير, الأمير في دولة القراصنة, مجلة الاجتهاد العدد السابق, ص110-114).

وسينجح في تسخير كل حياته لتكوين البدو وترويض شعوب القبائل، وتسوية أوضاع أهالي المدن من المسلمين وفي حكم الجميع بقبضة من حديد.. وبتحقيق هذا العمل فإن هذا الأمير يصبح آهلاً لكي تطلق عليه أجيال الحاضر والمستقبل لقب (المحيي) إذ يكون أجدر به من نابليون ذاته!.

وفي مؤلفه (تاريخ المغرب) يشرح المستشرق الفرنسي (هنري فورنان) طبيعة مهمته في الجزائر بقوله: “أثناء السنوات 1834-1846 التي كرستها للمهمة التي كلفني بها السيد وزير الحرب قصد الكشف عن الثروات المعدنية التي قد تحتوي عليها الجزائر.. جلبت انتباهي الفروق العديدة التي تفرق بين الجنسين البربري والعربي وتساءلت عندئذٍ كيف إزاء جنسين توجد بينهما هذه الفروق نستطيع أن نتمادى أكثر في التصرف نحوهما تصرفاً واحداً من دون أن نفكر في النتائج، أليس من واجبنا أن نبدي شيئاً من التفضيل يكون في صالح الجميع الغالبين منهم والمغلوبين، قاعدة سياسية يبدو أنها تعوزنا تماماً”، (محمد الطالبي، التاريخ ومشاكل اليوم والغد، مجلة عالم الفكر الكويتية، العدد الأول، يونيو، 1974، ص33).

وفيما بعد جرى تفضيل البربر على العرب، وتم تأويل كل تاريخ المغرب من الاستشراق على أساس اغتصاب العرب لأرض كانت ذات يوم في عهد روما تابعة للغرب وملتحمة بحضارته، ومن ثم فإن الفاتحين القادمين من الفرنجة إنما جاءوا ليعيدوها إلى نصابها الطبيعي، بعد الفساد الطويل الذي تسبب به العرب على هذا النحو تنتج القوة المعرفة التي تسوغها وتقويها وتعزز مواقعها ولا يهمها ما إذا كانت هذه المعرفة حقيقية أم باطلة، لأنها معنية بإنتاج ذاتها وإعادة إنتاج حقيقتها هي، وعلى هذا لم يكن بمقدور الاستشراق أن يأتي تعبيراً صادقاً على الشرق بقدر ما كان تعبيراً عن الشرق كما يراه الغرب، أي الشرق المستغرب.

وهذا ما أدركه مؤخراً بعض المستشرقين أمثال الإنجليزي (مايكل كاريدرس) فقد أشار في كتابه (لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة) إلى أنه “بات لزاماً على علماء الأنثروبولجيا والمستشرقين عموماً أن يعملوا للتغلب على افتراضاتهم هم وعلى حكمتهم التي اكتسبوها، وعلى نظراتهم التي حددتها لهم ثقافاتهم، وذلك بغية الوصول إلى فهم واضح قدر المستطاع لنظرة أولئك الذين يتخذونهم موضوعاً لدراستهم وأصبحت القاعدة البديهية: “إذا كنا نقرأ في نفوس الآخرين دوافعنا وفهمنا فكيف لنا أن نفهم دوافعهم وفهمهم؟.

إن من طبيعتنا أن نتبنى نظرة وموقفاً من حيث علاقتنا بالآخرين ومن ثم فإن هذه النظرة تتأثر لزوماً بأسلوب الحياة الذي نشأنا عليه منذ الميلاد”( مايكل كاريدوس، لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة, ترجمة شوقي جلال مجلة عالم المعرفة الكويتية, العدد 229 يناير 1978, ص50).

ومازال للحديث بقية.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى