د. قاسم المحبشى يكتب: حضارة الموجة الثالثة (2من2) بشائر ميلاد جديد
على هذا النحو الخطابي الاحتفالي يقرأ توفلر أزمة العالم المعاصر، إذ يرى في الأزمة الماحقة التي تجتاح العالم بشائر ميلاد جديد لحضارة جديدة تحمل العالم إلى العصر القادم السعيد !.
ومن الطريف أن نشير إلى أن تلك النبرة المتغطرسة في تبشير توفلر بالعالم الجديد تذكرنا بخطاب مماثل لكاتب أمريكي من القرن الثامن عشر الميلادي هو (توم بين) الذي كتب على أثر تحقيق الاستقلال الأمريكي عام 1783م يقول:
«نحن الأمريكيين نملك القوة و القدرة على أن نبدأ العالم من جديد، وإن العالم لم يشهد موقفاً مماثلاً منذ أيام نوح حتى الآن، ونحن نقف على عتبة ميلاد عالم جديد».
وفي عام 1858م كتبت مجلة (هاربرز منثلي الأمريكية): «إن كل ما له علاقة بوضعنا وتاريخنا وتقدمنا، يعين الولايات المتحدة أرضا للمستقبل». وإنها من مفارقات القدر أن يعيد توفلر بعد قرنين من الزمن ترديد هذه الأنشودة الصاخبة بقوله:
«إن أمريكا هي البلد الذي عادة ما يأتيه المستقبل قبل غيره وإذ نحن نعاني من انهيار مؤسساتنا القديمة، فإننا أيضاً رواد حضارة جديدة».
وإذا كان كتاب « هنتنجتون » المعنون بـ « صدام الحضارات» قد آثار موجات عاتية من ردود الأفعال الناقدة والرافضة والمستنكرة، فإن توفلر في معظم كتبه هو أخطر بكثير من هنتجتون في تبرير وشرعنة الصدام الحضاري الراهن، إذ يرى أن العالم اليوم يصطف اصطفافاً حضارياً مختلفاً في ثلاثة أقسام متناقضة ومتنافسة في ثلاث موجات حضارية متمايزة.
الموجة الحضارية الأولى: التي كانت ولا تزال مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بالأرض، وأياًّ كانت الأشكال المحلية التي تتخذها، أو اللغات التي تتكلمها شعوبها، أو الديانات والمعتقدات التي تؤمن بها، فإنها نتاج الثورة الزراعية. وحتى أيامنا هذه، وما زالت أقوام كثيرة تخربش أديم الأرض بحثاً عن الرزق، كما كان آباؤهم وأجدادهم منذ قرون.
والموجة الصناعية الثانية: التي تضم كل الشعوب والدول التي لا تزال تتدافع وتتزاحم لتبني مصانع صلب وسيارات ونسيج ومواد غذائية، وسكك حديدية، أي كل الدول التي تحتاج إلى التصنيع بغض النظر عن اختلاف قومياتها ولغاتها ودياناتها وثقافاتها.
والموجة الثالثة: تضم مجتمعات ودول التقنية العالية مثل أمريكا واليابان وأوروبا.. ثلاث حضارات متصارعة، الأولى التي لا تزال يرمز إليها بالفأس، والثانية بالمصنع والثالثة بالكمبيوتر.
وفي هذا العالم المنقسم إلى ثلاث موجات حضارية يحدد توفلر وظيفة كل حضارة في العالم الجديد، إذ يرى أن قطاع الموجة الأولى يقدم الموارد الزراعية والمنجمية وكل المواد الخام، ويقدم قطاع الموجة الثانية العمالة الرخيصة والإنتاج الجمعي والثقيل.
بينما يصعد قطاع الموجة الثالثة الذي يتوسع بسرعة – ليحقق السيادة المؤسسية على الأساليب الجديدة التي يخلق بها المعرفة ويستثمرها.
إذ تقوم أمم الموجة الثالثة ببيع المعلومات والإعلام والمبتكرات، والإدارة، والثقافة الرفيعة والفنون الشعبية، والتكنولوجيا المتقدمة، والسوفت وير (برامج العقل الإلكتروني)، والتعليم، والتدريب المهني، والرعاية الطبية، والخدمات المالية وغيرها للعالم.
ومن بين تلك الخدمات الأخرى يمكن أن تقدم أيضاً الحماية العسكرية القائمة على امتلاكها لقوات عسكرية متفوقة تنتمي إلى الموجة الثالثة.
هذه في الواقع، هي التي قدمتها دول التكنولوجيا المتقدمة إلى الكويت والمملكة العربية السعودية في حرب الخليج، وسوف نلاحظ فيما بعد بعض أوجه الشبه بين توفلر ومنظري ما بعد الحداثة أمثال ليوتار في كتابه «الوضع ما بعد الحداثة».
ويرصد توفلر مظاهر وتجليات الحضارة الجديدة في جملة من الخصائص الأساسية يمكن الإشارة إلى أهمها و أكثرها جوهرية في النقاط الآتية:
أولاً: المعرفة:
يُعرّف توفلر المعرفة تعريفاً عامًّا، بُعدها يشتمل على البيانات، والمعلومات، والإعلام، والصور، والرموز، والثقافة، والأيديولوجية، والقيم، وهي المورد المركزي لاقتصاد الموجة الثالثة.
والمعرفة بهذا المعنى الواسع هي «البديل الجوهري عن القوة الطبيعية الممثلة في الأرض التي سادت في الحضارة الزراعية، وعن القوة الصناعية الممثلة في المصنع التي سادت حضارة الموجة الثانية.
إذ يرى توفلر أن كل الأنظمة الاقتصادية اليوم تقوم على أساس قاعدة معرفية (معلومات، بيانات، حسابات أرقام … إلخ ) وتعتمد المشروعات المعاصرة جميعها على الوجود المسبق لهذا المورد المبنى مجتمعياً.
وإذا ما أدركنا أنه يستحيل أن يدور دولاب عمل إذا لم تكن هناك لغة، وثقافة، وبيانات، ومعلومات، ومهارات وخبرة مدربة وذكية، فإن الحقيقة الأعمق هي أنه من بين جميع الموارد اللازمة لخلق الثروة، تتميز المعرفة بأنها متعددة الجوانب والاستعمالات أكثر من أي شيء آخر.
لقد تحققت نبوءة فرنسيس بيكون (بأن المعرفة هي القوة أو السُّلطة) و إذا كانت قوى السلطة في الماضي تتمثل في العنف والمال والمعرفة، هذه المصادر الثلاثة للسُّلطة والسطوة والسيطرة، ظلت على مدى التاريخ الإنساني الطويل تحتل المكانة الأرفع بين إمكانات أخرى لا متناهية العدد، و اتخذت صورًا شتى في لعبة السُّلطة، وكما كانت السينما والتمثيل الغربي عموماً تتمحور حول هذا الثالوث الرمزي « العنف والمال والمعرفة» وكذا يمكن التعرف على تاريخ القوة في الشرق في السيف والمال والقلم، ففي الأسطورة اليابانية تذكر الأشياء الثلاثة المقدسة المقدمة إلى آلهة الشمس الكبرى بالسيف والجوهرة والمرآة، التي لا تزال إلى يومنا هذا رموز السلطة الإمبراطورية
وبعد أن يورد توفلر كثيرًا من الشواهد التاريخية بشأن القوى التي استخدمت في الماضي كمصدر جوهري للسلطة ويحلل ويفسر خصائص كل رمز على حده ينتهي إلى أن السلطة ذات الجودة العالية هي حصيلة استخدام المعرفة.. إذ أن المعرفة هي أعظم وسائل السلطة لأنها الأكثر قدرة على التلاؤم، والإسراع إلى رفع قيمة الدولار، وهي تصلح للعقاب كما تصلح للمكافأة، وتصلح للإقناع، كما تصلح لتطوير النفوس. وفي وسعها أن تجعل من العدو صديقاً وحليفاً، ثم إن المعرفة عامل مضاعف للثروة وللقوة.
وحتى زمن قريب، كانت القوة العسكرية مجرد امتداد لقوة القبضة، قبضة اليد، أمَّا اليوم فإنها كلها تقريباً في يد «الذكاء المختزن»، وما الطائرة المقاتلة إلّا حاسوب طائر وحتى الأسلحة «الخرساء هي نفسها إنما يتم إنتاجها بفضل حواسيب وعناصرها إلكترونية مؤنقة إلى أبعد مدى.
لقد حدد البتاجون الأمريكي مشروع تصور منظومة من الأسلحة، قادرة على القيام «بمليون استنتاج منطقي في الثانية» وينتهي إلى تأكيد أن الهيمنة على المعرفة، سيكون العنصر الحاسم في التنازع على القوة، على المستوى العالمي، ذلك التنازع الذي سيقوم عما قريب داخل كل المؤسسات الإنسانية.
«كان نابليون يقول شيئان يحيراني؛ هما صراع السيف والعقل، فعلى المدى الطويل سينتصر العقل على السيف.
في الواقع أن توفلر لم يكن هو صاحب ذلك الاكتشاف الرائع لوضع المعرفة في العالم الراهن، بل سبقه إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في كتـــــابه (الوضع ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة) إذ يُعَد أول من بحث هذه المسألة وشخَّصها وحللها تحليلهاً ضافيًا من وجهة نظر منهجية فلسفية ما بعد حداثية، إذ ذهب إلى أن وضع المعرفة قد تغير منذ دخول المجتمعات الصناعية عصر ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة منذ نهاية الخمسينات» ومن السهل ملاحظة أن توفلر قد نقل فكرة ليوتار نقلاً حرفياً فكرة «أن المعرفة ستظل تمثل رهاناً رئيساً في المنافسة العالمية على السلطة فمن المتصور أن الدول القومية ستحارب بعضها يوماً من أجل السيطرة على المعلومات، مثلما تقاتلت في الماضي من أجل السيطرة على الأرض وبعدها من أجل التحكم في الوصول إلى واستغلال المواد الخام وقوة العمل الرخيصة».
ويضيف ليوتار: «لقد تم فتح مجال جديد أمام الاستراتيجيات الصناعية والتجارية من جهة والاستراتيجيات السياسية والعسكرية من جهة ثانية».
وفي تحليله لأنماط المعرفة المتمايزة حدد ليوتار ثلاثة أنماط للمعرفة الإنسانية في ثلاث مراحل تاريخية وبدا وكأنه يعيد صياغة قانون المراحل الثلاث عند عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت إذ أشار فرانسو ليوتار إلى أن هناك ثلاثة أنماط من المعرفة هي:
– نمط المعرفة الحكائية التي تعود إلى المجتمع القبلي البدائي، وربما الزراعي الرعوي وهي معرفة سحرية أسطورية خرافية.
– نمط المعرفة « الميتا – حكائية» – أي ما بعد الحكاية، وربما قصد بها المعرفة الفلسفية التي تعود إلى المجتمع الحديث إذ تسود فيه ما يسمى بالحكايات الكبرى «العقل – والقومية – والتقدم » وهي المنظومات الفلسفية المتنافيزيقية الشمولية التي شهدها العصر الحديث عند كانت وهيجل وماركس.
– نمط المعرفة العلمية: التي تميز المجتمع ما بعد الحداثي الراهن إذ تتحول المعرفة إلى سلطة عليا تختفي معها كل السلطات الأخرى، المشروعية المرجعية والغائية والتقدم والتنوير، إذ «تبدو نوعاً من ألعاب اللغة المستندة على قواعد محددة فورية تنبع من طبيعة اللعبة ذاتها وتمنحها عقلانيتها وشرعيتها».
هكذا نرى أن الإحساس المتزايد بسطوة التقدم المعرفي العلمي النظري والتطبيقي وما أفضى إليه ذلك التقدم من نتائج مذهلة على صعيد التفوق التقني وثورة المعلومات والاتصالات و الإنترنت كان إحساساً عاماً بين الشرائح المثقفة الأوروأمريكية.
إذ يتفق الجميع في المبدأ على أن المعرفة أصبحت على نطاق واسع القوة الرئيسية للإنتاج و الثروة والتوزيع والمنافسة، ويختلفون في تشخيص هذه الظاهرة في نتائجها القريبة والبعيدة وأبعادها المختلفة، وهذا ما يراه الدكتور توفيق مجاهد في أطروحته «التحولات الفكري للعولمة» من اشتراك مجموعة من النظريات والنماذج الفكرية «نظرية ما بعد الصناعة» أو « مجتمع المعرفة «عند دانيال بيل»، وتصورات توفلر حول المجتمع عالي التصنيع أو مجتمع المعلومات» وغيرها من التصورات الأخرى، التي تلتقي جميعها في أنها تعتبر التقدم العلمي والتقني المحور الأهم والمحدد لاتجاه تطور البشرية.
ما يهمنا من هذه الاستشهادات المقارنة هو التحقق من مشروعية دعـــــوى توفلر وخطورتها، والكيفية التي يعالج بها توفلر هذه الظاهرة، ظاهرة المعرفة الإنسانية.
وربما يختلف توفلر مع ليوتار في زاوية النظر المنهجية في تشخيص ظاهرة المعرفة بما هي محور الموجة الحضارية الثالثة، ففي حين ينطلق ليوتار من منهجية فلسفية أكاديمية، نرى توفلر يغلب عليه المنهج التطبيقي، إذ نظر الأخير إلى المعرفة في بعدها التقني والعملي في الممارسة الاجتماعية والسياسية المشخصة وهو بذلك جمع بين الماركسية والبرجماتية، في إلحاحه على النتائج الاقتصادية من جهة وعلى النتائج العملية المتحققة أو التي سوف تتحقق جرى انتصار ثورة الموجة الثالثة.
إذ يرى أن صعود اقتصاد الموجة الثالثة عالية الترميز لا يفسرها الإفراط في استخدام الكمبيوتر أو مجرد المناورات المالية للتأثير في الأسعار، وإنما يجد تفسيره في الفوران الهائل في القاعدة المعرفية للمجتمع، ويرصد توفلر نتائج ثورة الكمبيوتر في حياة المجتمع ما بعد الصناعي في عدد من المظاهر والتجليات في مختلف أنساق الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والأسرية أي أن كل شيء في حياة الإنسان أخذ يتغير بعنف، وكل من سيقدر له أن يعيش على ظهر هذا الكوكب في هذه اللحظة المتفجرة سيشعر بالصدمة الكاملة للموجة الثالثة في حياة هذا الجيل.
فالموجة الثالثة ستجيء بأسلوب حياة جديدة تماماً، يتأسس على: مصادر طاقة متنوعة ومتجددة، وأساليب إنتاج تجعل خطوط الإنتاج في المصانع أشياء عتيقة انتهى زمانها، وأسر وعائلات جديدة غير نووية، ومؤسسة من نوع جديد يمكن أن نسميها « الكوخ الإلكتروني «ونرى مدارس وشركات ونقابات مختلفة مستقبلية تختلف عن المألوف حالياً اختلافاً جذرياً، وتخط لنا الحضارة البازغة قواعد جديدة للسلوك، وتحملنا إلى ما بعد التنميط والتزامن والتمركز بعيداً عن تركيز الطاقة والمال والسلطة.
هذه الحضارة الجديدة لها رؤيتها المميزة للعالم، وطرقها الخاصة للتعامل مع الزمان والمكان والمنطق والسببية ولها مبادئها الخاصة لسياسات المستقبل.
بيد أن المثير للفزع في رؤية توفلر لبزوغ الحضارة الجديدة يكمن في كونه لا يرى في ما يشهده العالم الراهن من صراعات وتمزقات وأزمات وحروب- إلا مظهراً من حالات المخاض و آلام الوضع للجنين القادم، إذ أنه لا يعير أهمية تذكر لمشكلات حيوية متفاقمة كمشكلات: الفقر ومشكلة التخلف والأمية والهيمنة الأمريكية والتسلح النووي، والقيم الاستهلاكية، وتفكك المجتمع والتفسخ الأخلاقي، ونتائج العلم والتقنية لا سيما في الثورة البيولوجية وعلم الوراثة والاستنساخ على حياة الإنسان المعاصر وغيرها، وهي المشكلات التي يرى فيها آخرون أمثال (روجيه جارودي، وجاك دريدا، وناعوم توشومسكي) تهديدًا قويًّا للحضارة الغربية الأمريكية.