عبدالحليم قنديل يكتب: حرب تغيير العالم
بعد المئة يوم الأولى من حرب أوكرانيا ، لم يعد أحد يجادل كثيرا فى هوية من انتصر ومن انهزم ، فالقوات الروسية مع حلفائها الأوكران، تزحف ببطء ولكن بثبات وثقة على قوس الشرق والجنوب الأوكرانى، وسيطرت إلى الآن على أكثر من ربع مساحة أوكرانيا الإجمالية، بما فيها “شبه جزيرة القرم” التى ضمتها روسيا عام 2014.
وفيما تتراجع معدلات خسائر الروس فى تكتيكات الحرب الجديدة بعد ترك حصار “كييف” ، فقد زادت خسائر ما تبقى من الجيش الأوكرانى، وبلغ عدد أسراه ما يزيد على ستة آلاف ونصف الألف ، نحو نصفهم من المقاتلين الأوكران الأشد صلابة ، من عينة كتائب “آزوف” و “الجناح الأيمن” وغيرهم ، وهم يوصفون فى الدعاية الروسية بالقوميين الأوكران أو الجماعات النازية ، وهزائمهم الأخيرة فى “ماريوبول” وفى مصنع “آزوف ستال” بالذات ، كان لها أثرها فى توارى مبالغات الدعاية الغربية الأطلسية عن أساطير المقاومة الأوكرانية.
كذا خفوت صوت “الفيلق الدولى” الداعم للرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” ، وقد كان يضم عشرين ألفا من عتاة اليمين المتطرف الأوروبيين والأمريكيين ، وتتسابق عناصره اليوم للفرار من جحيم الهجوم الروسى .
وما من شك فى طبيعة الحرب الجارية ، فهى ليست حربا إقليمية محصورة بالجغرافيا الأوكرانية ، بل حرب ذات طابع عالمى، أو قل أنها حرب عالمية تحت المستوى النووى ، تواجه فيها روسيا ثلاثين دولة عضو بحلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، إضافة لدول حليفة وتابعة ، بينها للأسف أطراف عربية ، وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة والعقوبات غير المسبوقة فى التاريخ الإنسانى ، هدفت منها أمريكا إلى “إضعاف روسيا” وهزيمتها.
كما أعلن مرارا وبالفم الملآن ، وبأقصى صور التعبئة التى تستطيعها الإدارة الأمريكية ، وهى تخوض حربا شاملة ضد روسيا ، يصدق عليها وصف المفكر الأمريكى اليسارى “نعوم تشومسكى” ، الذى رأى أن واشنطن تخوض حربا ضد موسكو “حتى نهاية آخر أوكرانى”.
فليس من وجود لقوات أمريكية معلنة الحضور فى الميدان الأوكرانى ، وإن كانت المشاركة الأمريكية المباشرة محمومة فى معارك السلاح ، بتخصيص 40 مليار دولار حتى الآن لدعم أوكرانيا ، إضافة لدعم أوروبى مماثل ، قد يقفز بحجم الإنفاق الغربى إلى نحو مئة مليار دولار ، مع تدفق جنونى للسلاح الفتاك المحارب لروسيا ، والتحول من الأسلحة الدفاعية إلى الأخرى الهجومية ، من صواريخ “ستينجر” و”جافلين” ، إلى راجمات صواريخ “إم 270″ البريطانية و”هيمارس” الأمريكية ، وإلى أحدث أنواع المسيرات الأمريكية ومدافع “الهاوتزر” والألغام الألمانية الذكية ، وإلى استنزاف مخازن السلاح السوفيتى القديم بدباباته وطائراته فى دول أوروبا الشرقية ، ومن بولندا بالذات ، مع وجود آلاف المدربين الأمريكيين والأطلسيين على الأرض ، والدعم الاستخباراتى اللحظى وعبر الأقمار الصناعية من أمريكا وبريطانيا بالذات ، وقد أغراهم ما جرى فى الأسابيع الأولى من فك القوات الروسية لطوق حصار العاصمة الأوكرانية “كييف”.
وصورت وقتها التقارير اليومية للبنتاجون ووزارة الدفاع البريطانية والمخابرات الأمريكية والبريطانية ، أن روسيا وقعت فى الفخ المنصوب بعناية ، وعلى مدى ثمانى سنوات مضت قبل انطلاق “العملية العسكرية الروسية الخاصة” فى 24 فبراير 2022 ، وأن موسكو تنتظر الهزيمة المؤكدة فى حرب تستمر لعشر سنوات ، كما جرى للاتحاد السوفيتى من قبل فى حرب أفغانستان.
ومع اتصال الحرب وتحول التكتيكات الروسية ، بدأت الرياح تأتى بما لا تشتهى سفن الغرب الأمريكى والأوروبى ، وتباعد شبح إمكانية هزيمة الجيش الروسى ، ودفعت روسيا إلى الميدان بأسلحة جديدة على نحو متدرج ، من “كاليبر” والصواريخ فرط الصوتية إلى الأسلحة الحرارية ومدافع الليزر ، وصارت تلتقط أحدث أجيال الأسلحة الأمريكية ، وتكسرها كما “حبات الجوز” بتعبير الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، الذى خيب الظنون الغربية ، ولم يعلن الحرب على أوكرانيا رسميا إلى اليوم ، ولم يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العسكرية العامة ، واكتفى بدفع عشرات آلاف الجنود ، مع حسن استثمار أدوار القوات الحليفة من كتائب الشيشان وقوات جمهوريتى “الدونباس” فى الشرق الأوكرانى ، وتعامل بثبات عصبى مذهل ، يثق أن الحروب بخواتيمها ، وأن أهدافه الأوكرانية كلها قابلة للتحقق ، وقد تصل فى حدها المنظور إلى ضم ثلث مساحة أوكرانيا ، بما فيها إقليم “الدونباس” كله ، إضافة إلى “خيرسون” و”زابوريجيا” ، وربما “خاركيف” و”ميكولايف” ، وصولا إلى “أوديسا” ، وفرض خرائط جديدة ، تفقد فيها أوكرانيا أراضيها ومدنها الصناعية الكبرى ، وينقطع فيها اتصال ما يتبقى من أوكرانيا بالبحر الأسود ، بعد أن تحول “بحر آزوف” بكامله إلى بحيرة روسية داخلية ، وكلها مهمات حربية مباشرة ، قد تتدحرج مواعيد إتمامها كما نقدر إلى نهايات الصيف ومطالع الخريف على الأقل .
ولكل حرب كما هو معروف روايتان ، كذا فى حرب أوكرانيا الجارية فصولها ، تسترت الرواية الأمريكية الغربية وراء حق أوكرانيا المفترض فى وحدة أراضيها ودفع العدوان الروسى عنها ، وفى الرواية بعض المنطق المجرد المدون فى المواثيق الدولية.
لكن العوار الذى يصادف هذه الرواية ، أنها تصدر عن آخر طرف يحق له الحديث عنها ، فقد شنت واشنطن عشرات الحروب على سيادة دول تبعد عنها آلاف الأميال ، بينما الرواية الروسية لها منطق مختلف ، فأوكرانيا عند “بوتين” ليست دولة أخرى وحق قومى منفصل ، وأوكرانيا برواية “بوتين” ، لم تكن لها دولة قبل قيام الاتحاد السوفيتى ، وكانت من أملاك الإمبراطورية الروسية ، والروس هم الذين أضافوا حوض “الدونباس” ومدن الشرق والجنوب وشبه جزبرة “القرم” إلى أوكرانيا السوفيتية سابقا ، وضمان الأمن القومى الروسى ، يستلزم رد الأرض إلى أهلها الروس ، خصوصا بعد تمادى النخبة الأوكرانية القومية فى الالتحاق بالغرب وأطماع “الناتو” فى تفكيك روسيا.
ومع هذه الرواية الروسية “البوتينية” ، فقد لا يجدى الدفع بالمنطق الدولى الصورى ، وباعتراف روسيا السابق بأوكرانيا وقت الإذلال بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ، فقد عاد الروس لتملك القوة العسكرية بالذات ، ولا يريدون أن يفلتوا لحظة تاريخ تبدو لهم مواتية ، ويهدفون لإنهاء عقود إذلال روسيا والاستخفاف الغربى بها ، وتصويرها كقوة إقليمية لا كقوة عالمية ، وهو ما كان الرئيس الأمريكى الأسبق “باراك أوباما” ينطق به زراية بروسيا ، لكن تحركات “بوتين” العسكرية فى “جورجيا” والقرم وسوريا قلبت الموازين ، وجعلت واشنطن تدرج موسكو كعدو عالمى ثان بعد الصين فى استراتيجيات الأولوية الأمريكية ، خصوصا بعد نجاح “بوتين” فى توثيق عرى علاقة “بلا حدود” مع الصين ، قبل عشرين يوما من بدء عمليته العسكرية فى أوكرانيا ، وهو ما منح موسكو مرونة هائلة فى الحركة ، وفى امتصاص صدمات سلاسل العقوبات الأمريكية الأوروبية ، التى بلغت حتى اليوم ما يزيد على عشرة آلاف عقوبة ، إضافة لحملات الشيطنة ونشر الكراهية لكل ما هو روسى.
ومع ما بدا من جبروت ظاهر فى العقوبات الجزافية ، فقد ارتد السحر على الساحر ، ودخلت اقتصادات الغرب الكبرى فى ركود تضخمى ، فيما أبدى الاقتصاد الروسى ـ متوسط الحجم ـ صمودا عكس التوقع ، وصار “الروبل” الروسى أفضل عملات العالم أداء باعتراف المؤسسات الأمريكية المالية ذاتها ، وبدأ العمل فى روسيا على بناء هيكل اقتصاد جديد ، يكافئ موارد روسيا المعدنية والطاقية والزراعية اللامتناهية.
ففى روسيا ربع إيراد العالم كله من المياه العذبة ، والقصور النسبى فى صناعاتها المدنية ، يثير المفارقة والتناقض مع قوتها العسكرية والنووية فائقة التكنولوجيا ، فوق أن سرقة عقوبات الغرب لثروات “الأوليجارشية” الروسية ، قد تفيد للمفارقة فكرة البعث الروسى مجددا ، و”الأوليجارشية” داء استشرى فى روسيا كما غيرها من دول الاتحاد السوفيتى السابق.
فالخصخصة السريعة المنفلتة ، راكمت ثروات فلكية من الهواء لرجال أعمال وحيتان من الأقلية “الأوليجارشية” ، وبوسع روسيا مع الحرب وبعدها ، أن تحول محنة العقوبات إلى منحة فريدة ، وبالذات مع تبين فشل خطة أمريكا العبثية فى عزل روسيا ، وتبين حيازة موسكو لتأييد صريح وضمنى من قوى العالم الجديد الصاعدة ، والتكون الفعلى لعالم متعدد الأقطاب ، لم تنشئه الحرب الأوكرانية ، بل كشفت وتكشف حقائقه بإطراد ، وكان أول ما سقط ويسقط فيه ، هو تلك الهيمنة الأمريكية الأحادية على مصائر الكون ، فلن تعود أمريكا أبدا إلى مكانة القطب الأوحد ، ولا إلى امتياز “القوة العظمى” الوحيدة بألف ولام التعريف ، وبوسعها فقط ، أن تكون “قوة عظمى” بين متعددين ، لن تصبح أولاهم مع صعود المارد الصينى إلى عرش الاقتصاد والتكنولوجيا.
وربما تكون مخاوف أمريكا الغريزية مما جرى ويجرى ، هى التى دفعت مفكرا استراتيجيا بوزن “هنرى كيسنجر” على عتبة عامه المئة ، أن ينصح واشنطن بالتنازل لروسيا بما تريده فى أوكرانيا ، وفض الاشتباك معها تفرغا لمواجهة التنين الصينى .