د. ناجح إبراهيم يكتب: وداعا.. العالم الدستوري د. حمزة مشهور
نعى الدكتور ناجح إبراهيم وفاة العالم الدستورى د. حمزة مشهور، فى مقال له منشور بصحيفة الشروق أمس الجمعة 4 يونيو، جاء تت عنوان: “وداعا.. العالم الدستورى د. حمزة مشهور”.. وعدد الكاتب فى مقاله مناقب الراحل، وما عرف به من الخصال الحميدة، والسيرة العطرة، ملخصا قبسا من تلك السيرة، وفى التالى نص المقال:
كان من الجيل الذهبى للمتدينين، تربى فى مدرسة الزهد والذكر فى مسجد أنس بن مالك على يد الشيخ الزاهد إبراهيم عزت، كان لا يتعصب لفكر معين، يحب الجميع ويألفهم ويألفونه، يعظم شعائر الله، كان إذا اقترب المغرب وهو معتقل يأخذ اتجاه القبلة ويضع شالا فوق رأسه ويعيش مع ربه ليطبق ما أسماه الزهاد والعباد ومنهم ابن القيم «الجمعية على الله» أى يجمع نفسه وروحه وقلبه ومشاعره على الله.
أخذ أفضل ما عند الجماعة الإسلامية، وترك ما سوى ذلك، عاش بقلبه وجوارحه مع الله، بدنه فى الأرض وروحه معلقة فى السماء، يكره العنف والدماء، لم تتلوث يده بالدماء قط، يحب الناس جميعا، ويحسن إليهم بلا قيد ولا شرط، كان غاية فى الكرم والجود والعطاء جمع بين العلم بالله والعلم بأمر الله.
كان يكره المناظرات ويرى أنها ضارة بالدين والفكر وأنها لا تنتج فى بلادنا ــ وخاصة المدن والقرى ــ سوى العداءات والخصومات لأن أكثر الناس من أتباع المتناظرين لا يعرفون آداب وأخلاق المناظرة وإن عرفوها لا يلزمونها.
كان يرى أن المفكرين المتميزين لا ينالوا قدرهم فى كل الأحزاب أو الجماعات وحتى المؤسسات الحكومية لأن تميزهم بالفكر والرأى لا يوافق عادة التيار العام المسيطر، ولكنهم يعرفون قدر رأيه بعد فوات الأوان.
كان صوته فى الخطابة بارعا، وكان يخطب رغم وجود أئمة وعلماء وكبار من حوله، صوته فى القرآن رائع وجميل، جمع بين أنواع من الفقه الحديث الذى غفل عنه الكثيرون مثل فقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد، وفقه المآلات والنتائج وفقه المال والنوازل.
كان يكره التشديد على الناس وخاصة فى أوقات الشدائد، خطب أحد الخطباء فى المعتقل عن النار وهو يرفع صوته «اتقوا النار حرها شديد،قعرها بعيد، ألمها لا يطاق»، فأشار إليه أن انزل، فنزل من فوره مهابة له، وقال له وللجميع: نحن الآن فى النار والشدة، فحدثنا عن الأمل والرجاء والتفاؤل.
كان يحب الرجاء ويردد «لا نهلك وأنت رجاؤنا» مناجيا ومناديا ربه، وقد خبرت الحياة فوجدت أكثر الناس رجاءً أكثرهم ابتساما وإقبالا على الخلق والخالق ومحبة للناس، ووجدت أكثر الناس يأسا وقنوطا أكثرهم نفرة وتنفيرا وأبعدهم عن الخالق والخلق وأشدهم على الناس.
كان أحب كتابين إليه منهاج القاصدين الذى اختصر إحياء علوم الدين الذى أحبه أيضا، وكلاهما يعلم التواضع وهضم الذات.
كان بارعا فى فقه الحال فقد رأى قلة الطعام وندرته فى المعتقل وهزال المعتقلين وضعفهم فنهاهم عن كثرة صيام النوافل.
وقد رأيت بأم عينى الهزال الذى صار إليه الذين ألزموا أنفسهم سنوات طوال بصيام داود عليه السلام وهو صيام يوم بعد يوم وتذكرت وقتها مقولة سيدنا داود نفسه «وارتعشت قدماى من الصيام» أى من كثرته وندم الصحابى عبدالله بن عمرو بن العاص أشهر عباد الصحابة بعد كبر سنه على فرضه هذا الصيام على نفسه.
وقد كان هناك عدد من أفاضل الأخوة يفعلون ذلك، وكانوا معروفون بيننا وبعضهم ترك ذلك بعد كبر سنه وبعضهم استمر فيه، وهو مجهد للغاية وخاصة لمن يعمل عملا عقليا أو بدنيا فى النهار.
ومن تضلعه من «فقه الحال» أنه أمر بوقف ما يسمى بالإذاعة فى المعتقل حيث كانت تسبب أكثر الأذى للمعتقلين من إدارات السجون التى كانت تشترط وقفها لحدوث أى تحسن ولإدخال الكتب الدراسية ووقف الممارسات العنيفة ضد المعتقلين ولكن أكثر المعتقلين كانوا يعتبروها وكأنها من المقدسات وأن وقفها كأنه توقف لحياتهم وكيانهم وكان يرى نفس الرأى الذى رأيناه وقتها أن مفسدتها أكثر من مصلحتها، وأن مصلحتها ظنية ومفسدتها يقينية، فقد كان رحمه الله يحب التخفيف على الناس والرحمة بهم، فمشكلة شبابنا الأساسية أننا وضعنا أشياء فى مرتبة المقدسات والمسلمات وهى ليست كذلك.
ينحدر د/حمزة مشهور من أسرة عريقة من أسر قرية الهمامية بالبدارى فخاله هو الأستاذ الدكتور/عصمت سيف الدولة مؤسس الفكر العربى القومى وأحد رواد القومية العربية وأحد المنظرين الكبار لعهود ناصر والقذافى وصدام حسين وغيرهم من الزعماء فى حقبة القومية العربية، وأحد جهابذة القانون الدستورى فى العالم العربى وأحد كبار المحامين وهو المدافع الأساسى عن المرحوم كرم زهدى فى المحكمة وأحد أسباب نجاته كما صرح بذلك القاضى نفسه بعد إحالته للتقاعد وهو يذكر أهم المحامين فى القضية، ورفض أن يتقاضى أجرا، وابن خاله هو المفكر د/محمد سيف الدولة.
وقد كان د/حمزة نابها مثل أسرته فقد كان يحصل على الدرجات النهائية فى مراحل تعليمه وحصل على امتياز مع مرتبة الشرف فى رسالة الماجستير والدكتوراة، وأنجز الدكتوراه فى القانون الدستورى فى أقل من عامين، وكان لا يضيع لحظة من عمره وحياته، فإما تراه عابدا أو ذاكرا أو قارئا للقرآن أو ممسكا بكتاب.
كان غاية فى التواضع والرقى الإنسانى فإذا قابله طفل صغير أقبل عليه وهش له وكأنه يقابل زعيما كبيرا مقتديا فى ذلك برسول الله، وكان كريم النفس واليد وكان يوزع زيارته كلها دون أن يبقى منها شيئا لنفسه.
وقد مات فى اليوم الأخير من رمضان ليفرح الفرحتين فرحة بتمام صومه وفرحة بلقاء ربه بعد أن ختم الشهر صياما وقياما، ومات دون أن يزعج أو يضايق أو يتعب أحدا كما عاش فقد تعب تعبا شديدا بعد العصر ومات بعد ساعتين ركب فيها الإسعاف وظل يذكر الله ويصلى على رسوله وكان القارئ فى سيارة الإسعاف يقرأ الآية على لسان يوسف عليه السلام «تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ» فظل يرددها حتى فاضت روحه إلى بارئها الذى أحبه من كل قلبه.
وقد كان للدكتور حمزة مشهور مكانة خاصة لدى وكان محبوبا غاية الحب من أسرتى فى الصعيد وهو يبادلهم هذا الحب.
والحقيقة الغالية فى هذا الإنسان أننى لم أسمعه ينطق يوما بكلمة تفحش أو إساءة إلى أحد أو انتقاض من أحد، وكان فكره أرقى بكثير من كل جيله ومن كل من حوله، وكان فكره سابقا لعصره، ومغردا فى آفاق بعيدة لم يصل إليها أكثر أقرانه، فقد جمع بين وسيطة الفكر وصفاء القلب وسماحة النفس.
لقد لقى د/حمزة مشهور ربه فى الأيام التى تتنزل فيها النفحات الربانية وجوائز السماء، ومن أفضل ما خرجت به من دنياى محبتى لهذا الرجل الصالح ومحبة هذا الرجل الربانى لى، فالمحبة بين المؤمنين هى جائزة السماء العليا بعد الإيمان والتوحيد الحق، سلام على الصالحين، سلام على د/حمزة مشهور.