عاطف عبد الغنى يكتب: الدين والسياسة (2) الصهيونية فى التوارة.. والانتقام من العراق
طرحنا فى الجزء الأول من هذا المقال سؤال: لماذا يدعم هؤلاء المسيحيون الأصوليون – المتمركزون بشكل أساسى فى الولايات المتحدة الأمريكية – إسرائيل بهذا الشكل الأعمى المجافى للعقلانية؟!
وكانت مناسبة الطرح ما عرفناه من استبيانات قادمة من أمريكا، وتشير إلى أن المسيحيين الصهاينة (الإنجيليون) دعموا إسرائيل فى عدوانها على غزة أكثر من يهود أمريكا أنفسهم.
والسبب باختصار أن هذه الطائفه من المسيحية الإنجيلية، – وهى بالمناسبة ليست كل الكنائس الإنجيلية فى الولايات المتحدة الأمريكية – تؤمن بأن رجعة المسيح عيسى ابن مريم سلام الله عليه إلى الأرض مرتبط بقيام مملكة اليهود فى فلسطين، كجزء من مفهوم الخلاص، وأن هذا الفهم لدى هذه الطائفة من المسيحية الأصولية الإنجيلية جاء من تفسير مغلوط لسفر يوحنا اللاهوتى أخر أسفار الكتاب المقدس (العهد الجديد).
ونطرح سؤال أخر: من الذى نجح فى اختراق فهم هذه الطائفة ومرر إليها هذا المعتقد ؟
الإجابة : الصهاينة اليهود
.. سؤال: لماذا؟!.
الإجابة: من المعروف أن هناك كراهية من المسيحيين لليهود على اعتبار أنهم هم الذين صلبوا المسيح، واليهود أيضا يبادلونهم فى الحقيقة نفس الشعور، والتلمود شاهد على هذا، وذكره كثير من اليهود المعاصرين أمثال، إسرائيل شاحاك، وتبدو هذه الكراهية يوضوح فى كتاب «حاتانيا»: الكتاب الأصولي الشهير لحركة «حباد» أحد أهم فروع الحسيدية (طائفة أصولية يهودية).
لذلك عمل اليهود على أن ينسوا المسيحيين هذه الكراهية، حتى يتغلغلوا فى المجتمع الغربى المسيحى، وتحقق لهم هذا نسبيا فى العصور الحديثة، هذا أولا، وثانيا، حتى ينالوا أكبر دعم ممكن من المسيحيين فى الغرب، لإقامة المملكة اليهودية العنصرية التى حلموا بها منذ آلاف السنين، وبالتحديد مذ كانوا مضطهدين فى بابل العراق تحت أسر المملكة الأشورية، وبعدها البابلية، وبعدها الفارسية.
سؤال أخر: وهل يؤمن اليهود أنفسهم بهذا المعتقد (ارتباط قيام مملكتهم بعودة المسيح عيسى إلى الأرض) الذى نجحوا فى تمريره لهذه الكنائس الإنجيلية الموجودة فقط فى الولايات المتحدة الأمريكية؟
.. الإجابة بالطبع لا.. فهم يؤمنون بمسيح أخر من نسل اليهود، مسيحهم الذى يأتى ويخلّصهم من العبودية والاضطهاد، وينتظرون هذا المسيح منذ كانوا أسرى فى بابل العراق، وقد تأثروا فى هذا بحكاية أسطورية فارسية تقول إن هناك من يأتى إلى الأرض كل ألف سنة فيخلصها من الظلم والجور وينشر النور والضياء.
ويبدو أن هذه الحكاية الأسطورية أعجبت اليهود المنفيين فى بابل يعاملون معاملة العبيد، فاقتبسوها من البابليين، وبدأ خيال المنفيين الجمعى يحلم بأن يخرج من بينهم، أو يأتى من السماء، قائد حربى من نسل الملك داوود، الملك المسيح (الممسوح بالدهن المقدس) النبى الذى أقام لهم من قبل مملكة فى فلسطين، فيعيد هذا القادم الجديد لهم هذه المملكة، بعد أن يرجع بهم (بالمنفيين) من العراق إلى فلسطين، ويعيد بناء الهيكل (هيكل سليمان) الذى كان قد هدمه القائد البابلى نبوخذ نصر سنة 587 ق م، وأسر منهم الرجال الفتيان والنساء الشابات، واقتادهم إلى بابل.
واختمرت فى ليالى الأسر والعذاب فكرة المسيح فى أذهان المسبيين من اليهود، وفكرة أن يأتى قائد حربى ويخلّصهم (المسيح المخلّص) وأضفى عليها رجال الدين اليهود فى بابل القداسة، وربطوها بأحداث أخر الزمان، وفى التوارة ذكرا لهذه الفكرة الصهيونية، فى سفر المزامير الذى جاء فيه:
“عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا [1] بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا [2] لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبُونَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحًا: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ [3] كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ [4] إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي [5] لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي، إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي! [6] اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ، يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ: هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا [7] يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! [8] (انتهى الاقتباس).
وحكيت لكم باختصار فى الجزء الأول من هذه المقال حكاية مملكة الشمال إسرائيل، وأقول لكم أن النص التواراتى المقتبس بأعلى خارج من مجتمع أسرى وسبايا مملكة الجنوب “يهوذا” فقد وقع عليها ما وقع على يهود مملكة الشمال، وعزرا الذى جمع لليهود التوارة، كان ينتمى لمملكة يهوذا التى ناصبت مملكة إسرائيل العداواة ودخلت معها فى حروب، قبل السبى، وفى سنين السبى انفصل أبناء كل مملكة بأنفسهم، وعمل عزرا على جمع التوارة ليحيى النزعة الدينية فى المنفيين من مملكة يهوذا، ويقنعهم بعد حوالى 70 عاما من معيشتهم فى العراق بالعودة إلى فلسطين، وجبلههم المقدس الذى يسمونه صهيون (جبل المكبر)، وإعادة بناء الهيكل الذى هدمه إلى أساساته جنود العراق وقائدهم نبوخذ نصر.
وفى الجزء الذى اقتبسناه من التوارة نلاحظ الآتى:
- إن الكلام على لسان شخص من المسبيين فى بابل مع أنه منسوب لداوود النبى الذى عاش قبل هذا التاريخ بمئات من السنين، ويقول القديس جريجوريوس النزينزي: “طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد، قائلًا: “كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟” (مز 137: 4).. طالما نحن في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تستخدم في توصيل النغمات للرب، معلقة دون استخدام، لذلك يقول النبي: “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)”. ابحث فى الشبكة العنكبوتية تحت عنوان: (تفسير الكتاب المقدس – العهد القديم – القمص تادرس يعقوب).
- من هنا صارت العودة إلى صهيون “الصهيونية” فكرة مقدسة عند اليهود ما عدا القليل منهم مثل الطائفة السامرية التى تعتبر نفسها البقية الباقية من اليهود أنقياء السلالة، الذين عاشوا فى مملكة الشمال (مملكة إسرائيل).
- يظهر بوضوح الجانب الأسطورى فى النص والفكرة الخارجة من مشاعر الاضطهاد والأحساس بالظلم، والخطيئة.
- تمنى اليهود (فى النص) الخراب والهدم للعراق (بابل) مثلما فعل أهلها فى يهوذا، وفى النص: “طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا”.. هل هذا يفسر لنا ما حدث فى العراق ويحدث فى السنوات الأخيرة، كم غزو وهدم وتخريب وانتقام، وطمس الهوية بسرقة الآثار، ونهب المتاحف ؟!..
وأخير: هل نحسن قراءة التاريخ لنفهم الحاضر؟!.. هذا ما أحاول أن أفعله منذ ما يزيد على ربع قرن.. ولحديث السياسة والدين بقية.