رجب الشرنوبي يكتب: سد الخراب الإثيوبي..الفصل الأخير!

بعد مرور أكثر من عشر سنوات من حسن نوايا الدبلوماسية المصرية للتوصل إلي تصور يرضي جميع الأطراف ويحمل داخله حل ينطوي علي مصلحة الدول الثلاث..مصر..أثيوبيا والسودان..إلا أنه وكما يبدو في الآفق أصبح هذا المنحي التفاوضي درباً من دروب المستحيل مع التعنت الأثيوبي وبعد إبلاغ أثيوبيا كل من مصر والسودان رسمياً ببدأ المليء الثاني بشكل أحادي..رغم علمها بالإجتماع الطاريء لمجلس الأمن خلال الساعات القادمة لبحث هذا الموضوع والذي يحمل من الخطورة مايمكن معه تهديد للأمن والسلم الدوليين..يجتمع المجلس للمرة الثانية بعد أكثر من عام وبناء عن طلب كل من مصر والسودان والمجموعة العربية ذلك..لكن من زاوية أخري:هل أختارت مصر أفضل المسارات الممكنة للسير علي دروب الحل بما يحفظ حق المصريين في تأمين حقوقهم التاريخية المائية في مياه نهر النيل؟؟!!

بداية يجب علينا قبل الإجابة علي هذا التساؤل الذي يُثار من قبل مجموعتين من الناس لاثالث لهما..أما عن الأولي فهم ممن فضلوا طريق العداء للدولة والتربص بها في كل الأحوال وتحت أي ظروف..مبررين ذلك بخلافهم مع النظام القائم فيها وهذه المجموعة لاتشغل لنا بال ولايجب أن تكون كذلك..لا لشيء إلا كونهم إختاروا طريقهم بمحض إرادتهم وعليهم أن يتحملوا نتيجة إختياراتهم..أما المجموعة الأخري وهي ممن لهم علينا حق الرد وتوضيح الأمور ..فهم مواطنون شديدي الإنتماء لوطنهم والإعتزاز بمصريتهم دائماً داعمين لقيادة إختاروها بأنفسهم..لكن منعهم بحثهم الدائم عن لقمة عيشهم وتأمين حياة أبنائهم من متابعة الأحداث لحظة بلحظة..فهؤلاء من يقوم علي أكتافهم الإقتصاد الوطني يقدمون لوطنهم كل يوم من الدعم مالايتوقف أثره عند أحاديث براقة وكلمات منمقة أمام الميكرفونات.

حتي نكون منصفين يجب أن نعلم أن هذه المرة ليست الأولي التي يحاول فيها الأثيوبيين إقامة سدود ومشروعات مائية علي النيل الأزرق،في التاريخ القريب يكفي أن نشير أن هناك إتفاقية موقعة بين الإمبراطورية الأثيوبية وسلطة الإحتلال الإنجليزي في مصر والسودان عام1902،يقضي أحد بنودها بعدم أحقية أثيوبيا في إقامة أي مشروعات بهذا الشأن علي نهر النيل في مقابل ضم أقليم بني شنقول لأثيوبيا وهي دولة مستقلة ذات سيادة في ذلك التوقيت،بما يعني نية أثيوبيا في حينها إقامة سدود علي النيل بل تكرر الأمر عدة مرات بعد ذلك..منذ منتصف أبريل عام 2011 بدأ فصل جديد من فصول التربص التاريخي الأثيوبي بمياة نهر النيل!!ولكن لماذا في هذا التوقيت رغم فشل كثير من المحاولات الأثيوبية من قبل؟؟!!

كلنا يتذكر جيداً كيف صارت الأوضاع وإلي أين سارت الأحداث بعد يناير 2011 وعلي مدار سنوات تلتها..منذ أن تسلم المجلس العسكري المهمة ومروراً بفترة حكم جماعة الأخوان الإرهابية ثم الفترة التي كان فيها المستشار عدلي منصور رئيساً للدولة..حتي مع الخطوات الأولي من حكم الرئيس السيسي والتي كانت تعاني مصر فيها من موجات مستعرة من الإرهاب الأسود..الذي دفع أبنائنا الأبرار من شهداء القوات المسلحة والشرطة أرواحهم ثمناً للقضاء عليه..كيف أصبحت مصر بعد هذه التغيرات التي حدثت في يناير ومابعده؟؟!!

هنا نحن نتحدث عن مصر المؤسسات علاوة علي صورة الشارع المصري بكافة أشكالة سواء الإقتصادي والسياسي أم الإجتماعي والأمني..بمعني آخر أتحدث عن وضع مؤسسات الدولة المختلفة سواء من ينعكس أدائه منها علي الوضع الداخلي للدولة والمتعلق بالحياة اليومية للمواطنين..أو من يتعلق جوهر عمله منها بالصورة الخارجية للدولة المصرية ومدي تأثيرها أو تأثرها بالمحيط الإقليمي والقاري والدولي.. ناهيك عما وصلت إليه قواتنا المسلحة في ذلك التوقيت وقدراتها القتالية ومدي فاعليتها ودرجة إستعدادها للدفاع عن الأمن القومي المصري بكافة أبعاده ومنه الأمن المائي للمصريين..بعد سنوات من التراجع في تحديث المنظومة العسكرية وإعتمادها في هذا الشأن علي مصدر واحد فقط قادم من واشنطن..علماً بأن الولايات المتحدة تمثل الشريك الإستراتيجي والحاضنة الطبيعية لدولة إسرائيل”العدو التاريخي” في المنطقة..لكن هل يمكن أن تكون ثورة يناير هي السبب المباشر والوحيد في وضع مصر أمام هذا التحدي الضخم؟؟!!

من المؤكد أن ماحدث أثناء أحداث يناير كل يحمل من الدوافع والمحفزات ماشجع أثيوبيا علي الإقدام علي هذه الخطوة التي خططت لها كثيراً وترددت فيها عدة مرات وحسابها قبل ذلك لردود الأفعال المصرية تجاه هذه الخطوة..لكن هذا لايعني أن ثورة يناير وحدها كانت السبب الوحيد فيما حدث،أعتقد بحسب وجهه نظري أن ماحدث خلال السنوات الأخيرة من فترة حكم الرئيس مبارك وأدي لإنفجار الأوضاع بهذا الشكل لا يقل أهمية،لكنني أري أيضا وعلي نفس السياق أن حالة التربص بمصر في ذلك التوقيت من أطراف دولية علي رأسها الولايات المتحدة وأخري محلية مثل جماعة الإخوان الإرهابية وحركة 6 إبريل وغيرها أستغلت الأحداث وساعدت علي تصعيدها..شرعت في هدم مؤسسات الدولة ومن العدل والإنصاف ألا ننسي أو نتناسي تلك الموجة المسعورة من الهجوم علي مقرات أمن الدولة والمراكز والأقسام بالقتل والسلب والنهب وإستهداف كل من فيها..بالتأكيد أن كل هذه المعطيات السلبية كان لها من المؤثرات ماساهم بالقطع في إنهيار صورة الدولة في عيون كثير من أبنائها قبل أن تكون كذلك في نظر كل من تتعارض مصالحه معها..السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة الآن:هل كان من المنطق أن تترك إثيوبيا الفرصة التي أتت إليها علي طبق من ذهب لتبدأ في تكريس واقع جديد لطالما حلمت به وخططت له؟!!

في منتصف أبريل2011 وبعد أقل من ثلاثة أشهر من إندلاع الأحداث كان القرار الأثيوبي ببدأ تدشين مشروع الألفية كما أطلقوا عليه..بمرور الوقت كان بنيان السد يرتفع والتربص بالشعب المصري ومصاحه يزداد يوماً بعد يوم..كلنا تابعنا كيف كانت حالة الإستقطاب والإنقسام داخل الشارع المصري أثناء فترة حكم المجلس العسكري الذي تسلم البلاد في ظروف غاية في الصعوبة..ثم جاءت فترة حكم الجماعة الإرهابية ورأينا بأعيننا حينها كل الرؤي ووجهات النظرية الهزلية سواء داخل قصر الإتحادية أو التي يسوق لها أنصار الجماعة في الشارع بخصوص السد الذي كان يرتفع بناؤه كل يوم..تخلص الشعب المصري من حكم الإخوان وتوالت بعد ذلك موجات الإرهاب الأسود الذي مارسته الجماعة والأطراف التي تدعمها..في ظل موقف دولي مريب في وقت لم تكن كل الملابسات قد تكشفت أمامه بقدر كافي لبيان الخداع الذي مارسته جماعة الإخوان الإرهابية والأطراف التي تدعمها لتحقيق مصالح خاصة.

مع بداية تحمل الرئيس السيسي للمسؤلية وقيادة سفينة الوطن وبناء علي إختيار الشعب له وسط هذه الأمواج العاتية..أعتقد أن مصر منذ هذه اللحظة بدأ مشوارها مع هذه التحديات بأفضل البدائل بحسب ماهو متاح من معطيات محلية ودولية في ذلك التوقيت..بدأت القيادة السياسية في التعامل الجدي الذي ينطوي علي عمق ورؤية وقراءة مطابقة للواقع مع كل الملفات المحلية والإقليمية والدولية وضمنها بالطبع ملف السد الأثيوبي..من واقع جديد ومختلف وأشد سوء مما كان عليه الحال حتي قبل أحداث يناير..بل قد لاأكون مبالغاً إذا قلت أن مصر بدأت في جدولة تحدياتها وخصوصاً الخارجية بما يتناسب ويتوازي مع رحلة جادة وحقيقية للبناء الداخلي علي كافة القطاعات بالتوازي مع إستراتيجية حديثة للبناء العسكري والأمني ضمن لها هذا التحرك وهذه الفلسفة معطيات جديدة تعيد إليها هيبتها الدولية والإقليمية..ظهرت هذه الفلسفة وهذا العمق بشكل لاينكره كل ذي عين بصيرة ونفس سوية في تدرج حدة الخطاب السياسي المصري مع التعامل المرحلي في هذه التحديات والملفات خلال السنوات الماضية..إستناداً إلي نقاط جديدة وقفزات حققتها مصر علي قطاعات عدة إقتصادية وعسكرية وبينهما الكثير من قصص النجاح..التي أعطت القيادة المصرية مزيداً من الثقة في التحرك علي المستوي الدولي خاصة مع تنامي الدعم والإلتفاف الشعبي حول الرئيس السيسي يوما بعد يوم..مع تحركات محسوبة في إطار عام من ثوابت السياسة المصرية الخارجية التي يحترمها ويقدرها المجتمع الدولي.

بعد إعلان أثيوبيا المرحلة الثانية من مليء السد بشكل أحادي ضاربة بجهود كل هذه السنوات عرض الحائط وإبلاغ مصر والسودان والمجتمع الدولي رسمياً بذلك دون الإنتظار لما سيسفر عنه إجتماع مجلس الأمن الخميس القادم تكون حكومة أديس أبابا قد أعلنت الحرب فعلياً علي مصر والسودان الذي كان يقف إلي جانب الموقف السوداني بشكل كامل في بداية الأزمة..مع هذه التطورات المتلاحقة يجب علينا جميعاً أن نقف خلف وطننا الغالي الذي لانملك له بديلاً داعمين ومؤيدين لكل مؤسساته الوطنية وعلي رأسها فخامة الرئيس السيسي في كل مايرونه مناسب للحفاظ علي حياة أكثر من مائة مليون مصري وأربعون مليون سوداني مع هذا التحدي الوجودي الذي فرض علينا ولم نختاره..يجب أن نعي جيداً بأن أي إنشقاق عن الصف في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا ماهو إلا خيانة للوطن ولايجب أن نتناسي مافعله وماتحدث به كل من توني بلير ودونالد ترامب وماكرون وغيرهم عندما تعرضت بلدانهم وأمنها القومي للخطر الذي يسقط معه أي حديث عن حقوق الإنسان وحرية التعبير وماشابه..خصوصاً مع توقعات بعدم التعويل بشكل كبير علي إجتماع المجلس القادم..لكنها أوراق يجب أن تكتمل مع كتابة الفصل الأخير من كتاب”سد الخراب الأثيوبي”

زر الذهاب إلى الأعلى