هندسة العقل الإخوانى.. توظيف التعليم للهيمنة الأيديولوجية على أجيال الجماعة (1من2)

كتب: عاطف عبد الغنى


يقول المفكر والفيلسوف الإيطالي المعروف، أنطونيو جرامشي: “إن الاستحواذ على السلطة يستلزم ممارسة وظائف “الهيمنة الأيديولوجية”، بمعنى التحكم في عديد من الآليات والأدوات، وعلى رأسها النسق التعليمي بمختلف مراحله، ونظم المعلومات والمعارف، وبيئة الحياة اليومية والتجمعات الجماهيرية، ومنظمات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والجمعيات الاجتماعية والثقافية، وصولاً إلى اختراق بناءاتها المعقدة.
ولم يكن هذا المعنى بعيدا عن فكر مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين” حسن البنا، فى نزوعه المبكر لتأسيس تنظيم الإخوان.
لقد أدرك البنا، مبكراً ومن بعده أدركت زعامات الإخوان أهمية التعليم ودوره، لذلك قامت الجماعة ببناء نظام تعليمي خاص بها وموازٍ للنظام التعليمي الرسمي.
وفى وقت مبكر – أيضا – لجأت الجماعة إلى وضع استيراتيجية لإعداد الأجيال الصغيرة، من خلالها، وهندسة عقولهم وقلوبهم ليصبحوا أعضاء فاعلين في التنظيم.
أسئلة مهمة
ويطرح البحث عدد من الأسئلة المهمة منها:

  • كيف سخرت الجماعة مؤسساتها التعليمية كذراع لخدمة مشروعها، وإعادة إنتاج قواعدها من خلال التأهيل الأيديولوجي والعقدي والتنظيمي للدارسين في مدارسها؟.
  • كيف مكّن نظام الإخوان التعليمي الجماعة من كسب أعداد كبيرة من الأعضاء والمؤيدين؟.
  • كيف ساعد ما سبق الجماعة في البقاء لأكثر من 90 برغم الضربات التى توالت عليها والحظر والتضييق الناتج عن سلوكياتها العدائية للحكومات والدول التى تتواجد فيها؟.
    أسئلة أجاب عليها الدكتور محمد فريد عزيز مستشار تخطيط المعلومات في “تريندز” للبحوث والاستشارات، من خلال بحث حاول فيه استجلاء فك خيوط الاستراتيجيات المعقدة للجماعة.
    وتبنى البحث مفهوم الهندسة الاجتماعية المستخدم في العلوم الاجتماعية، لتوصيف عملية إعداد الأجيال الصغيرة وهندسة عقولهم.
    وقسم الباحث ورقته البحثية إلى عدد من من العناوين التراتبية ليصل إلى هدفه، كالتالى:
    أولا: “التعليم باعتباره إعادة إنتاج مجتمعي”، وتحت هذا العنوان، يعطى الباحث ملمحا إلى دور التعليم كوسيلة لإعادة إنتاج البنى الاجتماعية وعلاقات القوى بين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع.
    والتعليم يكرس الهيمنة الاجتماعية للفئات المتنفذة؛ ذلك أن العملية التعليمية ليست بمعزل عن الديناميكيات المجتمعية بل مرآة لها، فالمدرسة بعد الأسرة تسهم في إعداد انسان المستقبل وتكوينه، ويمس هذا التكوين القيم السلوكية والأخلاقية والروحية، فضلاً عن المهارات التقنية المطلوبة. وبتعبير آخر، تقوم المدرسة بوظائف أيديولوجية ومعرفية.
    ثانيا: التعليم باعتباره هندسة اجتماعية: المؤسسات التعليمية تؤدي وظيفة في عملية الهندسة الاجتماعية، ويحمل مفهوم الهندسة الاجتماعية معاني ودلالات متباينة، بحسب السياق والنظام السياسي والاجتماعي الذي يوظف فيه، فهو قبل كل شيء تقنية تشمل أنشطة واعية تستخدم من طرف الأنظمة السياسية أو جماعات نافذة بغرض التأثير في قلوب وعقول الأفراد المنتمين اليها.
    هندسة عقول النشء
    ومما سبق ينتقل الباحث إلى موضوعه الأساسى، وهو كيف استغلت جماعة الإخوان التعليم فى هندسة عقول النشء والأجيال، لصالح أفكارها.
    رؤية حسن البنا للتعليم ودوره في تحقيق أهداف “الإخوان”:
    يقول الباحث إن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنّا، رأى في التربية والتعليم الوسيلة الأساسية والمثلى في تحقيق أهداف الجماعة.
    وفي أول كتيب للإخوان المسلمين نشر البنا في عام 1929 “رسالة عن التعليم الديني”، أوضح فيها سياسته التعليمية الدينية، وذكر أن الغرض من التعليم ليس فقط نقل المعرفة إلى الطالب، ولكن أيضاً تحويله إلى شخص يسترشد في حياته وأخلاقه بتعاليم القرآن. فإنشاء مجتمع جديد يسود فيه الإسلام كنظام شامل لكل نواحي الحياة يتطلب استراتيجية تعليمية رسمية وغير رسمية الإخوان المسلمون، قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة -القاهرة: دار الأنصار، بدون تاريخ، ص ص 10-11).
    وذلك من أجل تنشئة جيل ملتزم لإحياء الإسلام وتطبيقه في نشاطات الحياة كلها. ويعتبر البنّا، في هذا الصدد، التربية هي “الحبل الذي يربط الإخوان سوياً” (حسن البنّا، مجموعة رسائل حسن البنّا القاهرة: دار الدعوة، 2002 ص 44).
    تأثر بالأساليب الغربية
    وكما تأثر البنا بجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وآراء علماء إسلاميين آخرين حول التعليم، فإنه تأثر أيضاً بالأساليب الغربية، وكان البنا من خريجي مدرسة دار العلوم للمعلمين في القاهرة، التي كان منهجها يستهدف تزويد الطلاب بتعليم علماني وديني باستخدام الأساليب التربوية الغربية، ومن هنا اكتسب البنّا النظريات الحديثة، مثل نظرية “التعليم الكلي” comprehensive education وطبقها في مدارس الجماعة.
    ولطالما انتقد البنا النظام المدرسي في مصر لضعفه في إنتاج الخريجين الذين يفتقرون إلى المهارات الأكاديمية الأساسية ولا يشعرون بتراثهم الديني أو التاريخي. وقال إنه يريد تحويل نظام التعليم إلى نظام ينتج خريجين أكاديميين أكفاء يتمتعون بحس متطور تجاه الشريعة والعادات الإسلامية.
    نظام تعليمي خاص
    وأولى البنا أولوية قصوى للتربية والتعليم منذ البداية، حيث شرع في بناء نظام تعليمي خاص بالجماعة.
    وفور تأسيس الجماعة عام 1928 بالإسماعيلية قام البنّا ببناء مسجد ومدرستين؛ واحدة للبنين وأخرى للبنات، وكان النظام التعليمي المعتمد فيها يمثل نموذجاً جديداً ومنافساً لنظام التعليم الحكومي ومحتواه الذي كان سائداً آنذاك.
    وحدد البنّا منذ البداية موقفه من التعليم الحكومي النظامي الذي وصفه بالتعليم العلماني، ومن التعليم الديني للأزهر الذي نعته بالجامد، ومنذ عام 1935 طالبت الجماعة بتعديل أسس التعليم تعديلاً جذرياً، بحيث يقوم على أسس إسلامية حقة، كما اعترضت على المدارس المسيحية.
    وسعى البنّا إلى تعميم نموذج أول مدرسة افتتحها في الإسماعيلية سنة 1931 على كل التراب المصري، وكانت المدارس الأولى للإخوان غير رسمية، وبحلول عام 1935 كانت الجماعة تدير نحو 300 من هذه المدارس غير الرسمية العاملة المنتشرة في جميع أنحاء مصر.
    وفي بداية الأربعينات بدأ الإخوان يطبقون برامج تربوية معيارية، حيث أدخلوا في تدريسهم مواد غير دينية؛ مثل الرياضيات، والعلوم، والتاريخ، والجغرافيا، ومع ذلك، كان التركيز أكثر على التعليم الديني وتكوين طلبة قادرين على نشر أيديولوجية الجماعة.
    مساهمة فى التعليم الرسمي
    ونظراً لاشتغاله بالتعليم، ونشاطه الحثيث في التعليم الموازي الإخواني، طُلب من البنا المساهمة في السياسة التعليمية الرسمية؛ ففي عام 1938 شارك مع شيخ الأزهر في إعداد تقرير عن توحيد نظامي التعليم الأزهري والحديث، وشدَّد على أنه لا يريد تعليماً إسلامياً صرفاً ولا علمياً صرفاً، بل مزيجاً من الاثنين.
    وزاد التعاون بين البنّا ومسؤولي التعليم في مصر في الأربعينات، حيث دُعي إلى المشاركة في مشاريع وزارة المعارف لتعميم التعليم ومحو الأمية. وسمح له نشاطه وعلاقاته في الوزارة باستفادة جماعته من دعمها المادي، ولاسميا الحصول على معونات مالية، ولوازم مدرسية تُقدَّم لكل تلميذ يدرس في مدارس الجماعة.
    وعززت هذه المعونات من قدرة الجماعة المالية المخصصة للتعليم، كما منحت مجهودها التربوي نوعاً من الاعتراف الرسمي.
    وبموازاة ذلك، كوَّن البنّا عام 1946 لجنة تأسيس المدارس الابتدائية والثانوية للبنين والبنات، ثم تكونت لجنة الشؤون الثقافية، ونظمت حملة كبيرة للتبرعات بين أعضاء الجماعة وأنصارها.
    إنشاء المدارس
    ثم طورت الجماعة مجهودها التعليمي وقامت بتأسيس شركات مساهمة لإنشاء المدارس.
    وفي الشأن السابق يقول رفعت السعيد فى كتابه: “حسن البنّا متى.. كيف.. ولماذا؟ ص” : “اتسعت شبكة المدارس الإخوانية إلى درجة أن الشيخ البنّا قد أكد أن كل شعبة من شعب جماعته الألفين أسست مدرسة وأكثر”.
    وينبه السعيد إلى أنه “لابد لنا من أن ندرك أثر ذلك في انتشار الجماعة ونفوذها في صفوف التلاميذ وأولياء الأمور والمدرسين والمدرسات”.
    والهدف الأساسي للبرامج التعليمية لدى جماعة الإخوان المسلمين هو تدريب المنتمين إليها وتزويدهم بالمهارات من أجل نشر أيديولوجية الجماعة وفكرها.
    وكان التركيز في التدريب على إنتاج نخبة من الدعاة.
    وفى عام 1951 دعا المرشد العام، حسن الهضيبي، إلى تأسيس مدرسة إخوانية مخصصة للتدريب على الدعوة في كل إقليم إداري للجماعة.
    وفي عام 1953 أسست الجماعة أكاديمية لشؤون الدعوة في القاهرة، بهدف تخريج وعاظ ودعاة أكفاء يمكنهم التنافس مباشرة مع علماء الدين التقليديين والعاملين في الحكومة على جذب قلوب المصريين العاديين وعقولهم واستمالتهم، وخاصة الشباب منهم.
    واتجه الإخوان إلى إنشاء مدارس خاصة تقوم بتدريس مختلف المواد إلى جانب المواد الدينية، وقد برز هذا الاتجاه منذ سبعينيات القرن الماضي وتوسع بشكل كبير في التسعينات، خاصة مع تراجع قدرة الدولة على استيعاب العدد الكبير من الطلاب في المدارس الحكومية، وهو ما سيتضح في جزء لاحق من هذا البحث.
زر الذهاب إلى الأعلى