د. قاسم المحبشى يكتب: العقل الذي اشتعل فأضاء ورحل

ماذا يعني الاستماع إلى فيلسوف عربي وهو يروي تجربته الفلسفية بعظمة لسانه؟ إنها تعني الكثير بالنسبة لي.

وحينما يكون المتحدث حسن حنفي ذاته فالأمر في غاية الروعة والإثارة!

هذا هو ما شهدته بذاتي في أمسية الجمعية الفلسفية المصرية الذي أدارها الأستاذ الدكتور مصطفى النشار رئيس الجمعية في الذكرى الخامسة والثمانين لميلاد المفكر العربي الكبير حسن حنفي  المتحدث الرئيس في الأمسية بعنوان (حياتي في عصري ) على مدى ساعة ونصف عرض تجربته بتسلسل منطقي مثير للدهشة والإعجاب.

وأنا استمع اليه تذكرت والدي رحمة الله فهو من جيل حسن حنفي. توفاه الأجل قبل ٢٣ عاما.

عرفت الأستاذ الدكتور حسن حنفي منذ كنت طالبا في الجامعة من خلال كتابة العمدة من التراث إلى الثورة في عدة مجلدات ومن النص إلى الواقع من النقل إلى العقل»، الجُزءان الرابع: «علوم التفسير»، والخامس: «علوم الفقه»، و«محمد إقبال»، «من الفناء إلى البقاء   وفي الاستغراب. وكتاب الهوية وكتاب ذكريات الذي اشتريته موخرا من مكتبة الجمعية وقرأته بحماسة واهتمام إذ كنت متشوقا لمعرفة المزيد عن هذه الواحة الفكرية العربية المصرية المترامية الأطراف.

حينما قدمت إلى القاهرة بغرض التفرغ العلمي في جامعتها حملني استاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي رسالة حانية لصديقه الأثير الاستاذ حسن حنفي تواصلت معه بالتلفون وابلغته تحيات الدكتور أحمد وعرفته بنفسي فرحب بي بتواضع العالم الحكيم ودعاني للحضور في مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية عن العقل والثورة بمناسبة المئوية الأولى لثورة 1919 -2019 بعنوان ( العقل والثورة).

استهلها الفيلسوف العربي الكبير حسن حنفي بمحاضرة ضافية بعنوان ( العقل والثورة؛ يختلفان أم يتفقان) على مدى ساعة كاملة استمعنا إلى سيل غزير من الأفكار الفلسفية المنسوجة من حرير الثقافة العميقة والأفكار الحكيمة. تلك كانت المرة الأولى التي اشاهد واستمع فيها للدكتور حسن حنفي مباشرة.

طالع المزيد| د.قاسم المحبشى يكتب: في خراب المدنية العربية

وقد سنحت لي فرصة التعليق والتساؤل لم أعد اتذكر ماذا قلت!

وفي المرة الثانية حرصت على حضور أمسية ذكريات الفيلسوف الذي سبق وإن قرأتها في كتابه لكن للاستماع المباشر  للذكريات لها مذاق أخر.

حدثنا عن مشروعه الفكري  وفصل الحديث في الدوافع التي حفزته لتقحم دروب هذا المشروع الحيوي البالغ الأهمية ومكوناته الأساسية الثلاثة الأضلاع.

التراث والواقع والآخر، اختتمت الأمسية بحفلة متواضعة بعيد ميلاد الفيلسوف حسن حنفي الخامس والثمانين.

ادهشني بحضوره الذهني وسرعة بديهته وقوة ذاكرته وهو يسرد لنا تفاصيل النشاة والطفولة والمدرسة والمراهقة.

كان مقعد الجسد وهو يتحدث بسبب المرض ولكنه كان متقد الروح والفكر والارادة.

إن حكمة الفلاسفة تتجلى في تلك اللحظة الختامية من حياتهم وهو على مشارف الرحيل. كان يعي موته وقد بلغ الخامسة والثمانين من العمر ولكنه لم يذرف الدموع ويستعطف الحياة بل قال: ” كنتُ أتمنَّى أن أعيش أَطولَ ولو أني راضٍ من أني تجاوزتُ الثمانين، كي أُعطيَ أكثر مما أعطيتُ، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن.

وكنتُ أُسَرُّ في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالًا جديدةً قَرأَتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأَسعدَتها رؤيتي، تُريد أن تتصوَّر معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقةٍ صوفية.

وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتُقارِن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يُعاديني المحافظون وأنا أَرُدُّ عليهم في هدوءٍ شديد وبمحبةٍ لهم وعُذرِهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن يُنير عقولهم، يُحيون أوطانهم، ويُعبِّرون عن عصرهم؛ فكل إنسانٍ هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راضٍ تمام الرضى في هذه الثمانين عامًا. والحمد لله أنني أعطيتُ وأخذتُ، ولي أسرةٌ وأحفادٌ وأصدقاءُ ومُحبُّون.. والأهم، أَثَري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة”

لقد أدرك الفيلسوف أن ضربات السيف تذهب أما ضربات القلم فهي آثار خالدة، فصب رحيق حياته في حروف من النور واستبدل ضجيجها كلمات لا تمحى، وأحل محل جسده الفاني أسلوباً يدل عليه وصوتاً يحمل اسمه، ومنح ذاته جسماً غير قابل للبلى والاهتراء ، إذ إنه كتب ليس لمجرد الرغبة في الكتابة ، وإنما لينحت من الفكر والكلمات جسم المجد الرفيع هذا.

في صبيحة يوم الأربعاء الموافق ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٢ توهجت روح المفكر لتخرج منها عشرات الفراشات هي كتبه التي ستخفق بأجنحتها الباذخة الجمال وتحلق في فضاءات الفكر والثقافة العالمية الإنسانية، وتطير وتهبط فوق رفوف المكتبات وفِي اروقة الجامعات والمدارس والمعاهد والمنازل والمعارض والمدونات وتلك الفراشات الورقية الطائرة هي عقل حسن حنفي بعد أن اشتعل فأضاء ورحل وتجلى رمزا إبداعيًا.

أبى أن يموت فأضحى آلاف الصفحات وملايين الحروف والأفكار المجنحة، إنه يولد من جديد ويصبح أخيراً إنساناً كاملاً متكلما مغنياً مزمجراً يؤكد حضوره الفاعل ضد جمود المادة القاسي، ومكر الزمن القاهر!.

زر الذهاب إلى الأعلى