د. ناجح إبراهيم يكتب: حازم وريناد.. سلام علي الأيتام

كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان: “حازم وريناد .. سلام علي الأيتام”، يختتمها بهذه العبارة: “سلام علي الأيتام، وسبحان من أوصي بهم: ” فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ “، ونشر المقال في جريدة الوطن الثلاثاء وهذا هو نص المقال:
• وكأن الأزواج المتحابين يتشاركون في المرض كما في المحبة، رأيته كثيراً، شعرت بالآم في القلب، تذكرت زوجها الراحل الذي كان يعاني من تضخم في القلب أفقده القدرة علي العمل والاتزان مع معاناة من السكر والسمنة.
• تذكرت كيف تدرج مرضه في الشدة حتى توفى بالقلب تاركاً لها “حازم وريناد” والآن تشعر بكل أعراض جلطات شرايين القلب التي كدرت علي المصريين عيشهم وكلفتهم الكثير.
• تكاتف الجميع لمساندتها في الذهاب لأستاذ القلب، جمع لها أهل الخير أجر القسطرة التشخيصية التي أجراها لها أستاذ القلب فهي لا تكاد تملك من حطام الدنيا شيئاً، فزوجها لم يترك لهم شيئاً فهم يعيشون في شقة بالإيجار، ولا يستر حقيقتهم إلا الملابس السكندرية “الشيك” “فيحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف”.
• أخبرها أستاذ القلب أن بعض شرايين القلب تحتاج لدعامتينن يتكلفان 45 ألف جنيه، قالت: نحن لا نملك من حطام الدنيا شيئاً، وأجر القسطرة كان من تبرعات المحسنين، رق لحالهم قائلاً: “لا بديل سوى المستشفي الجامعي، وسوف أجريها بنفسي”.
• ذهبت عدة مرات للمستشفي لإنهاء معاناتهان وفي كل مرة كان أستاذ القلب يتغيب لطارئ، أعذار الأطباء الكبار لا نهاية لها، والفقير ليس أمامه سوى الخضوع، بعد أربع مرات قالوا لها جهزي نفسك لتركيب الدعامات غداً، نظرت إلي أولادها، حازم وريناد، وهي توقظهم للمدرسة كأنها تودعهم الوداع الأخير، وجدوا أمهم ترتدي زي الخروج، قالوا: “أين تذهبين؟.. مشوار بسيط وأعود أليكم، سنكون معاً علي الغذاء، تهيأوا للمدرسة وأوصلتهم إليها، ذهبت للمستشفي، لم يكن الأستاذ موجوداً، وجدت طبيباً صغيراَ يجري لها الجراحة، توكلت علي الله، فأمثالها خياراتهم في الحياة معدومة.
• تذكرت خيارات زوجها المعدومة كذلك، فقد ضاق بمرضه أصحاب السوبر ماركت، وأعطوه فرصة أخيرة بتولي أمور المسجد، كان حافظاً للقرآن وكذلك زوجتهن ولكن المرض غلبه فطرد من عملهن وقف في دكان بسيط، ولكن المرض هزمه، حتى توفي دون معاش ولا مكافأة نهاية خدمة من باب الإحسان وليس من باب القانونن فالرحمة والإحسان فوق القانون.
• استسلمت ليد طبيب القلب,لم ينجح في تركيب الدعامات,نزفت دماً كثيراً,تعقد الوضع,اقتربت من الموت مرات,سارعوا بالاتصال بأستاذ القلب الذي أسرع الخطي فوجد الأمور غاية في التعقيد حاول تسليك الشرايين دون جدوى قال لأسرتها:صنعت المستحيل والباقي علي الله,الحالة معقدة,وكأنه يرثيها لهم قبل الموعد.
• بعدها بساعة توفيت فعلياً,دفنت في القبر دون علم أولادها الذين كانوا في المدرسة,الفراغ والوحشة يقتلانهما,تحسبت أمهم لمثل هذا اليوم,ونقلت سكنها إلي شقة ملاصقة لشقة عمتهم وكأنها تقرأ الأقدار وتستشرفها,وتسلم ولديها أمانة لهذه العمة الفاضلة التي أبت بعد وفاة الوالدين أن يأخذهم أحد من أصدقاء والدهم.
• قبل موت الأم بساعات فكرت في يتم أولادها,استرجعت شريط الذكريات,قبل سنوات طويلة تربت يتيمة وهي في الخامسة من عمرها,آه سيدور الزمان دورته ويكرر مسيرته,سيعيش أولادي أيتام كما عشت.
• يبدو أن دورة اليتم تتكرر,حقاً لقد رأيت ذلك في حياتي فقد عاشت زينب ابنة شقيقي ومعلمي الأستاذ/صلاح يتيمة الأم وهي طفلة صغيرة وعاشت مع عمتها عدة سنوات حتى ضمها والدها مع أشقائها ثم مرت السنون وتخرجت من الجامعة ودبلوم الدراسات العليا ثم تزوجت وأنجبت حمزة وعبد الله ثم مرضت مرضاً غامضاً عاتياً توفيت علي إثره بعد عدة أشهر قضتها في المستشفي الجامعي دون أن يعرف الأساتذة كنه مرضها,تاركة الصغيرين يعيدوا نفس الدورة,دورات الحياة تتكرر في منظومة عجيبة.
• اشتعل الفيس بوك تعاطفاً مع الصغيرين”حازم وريناد”من أصدقاء والدهم محمود المرسي طيب القلب المتسامح,القلب الموجوع عادة يكون طيباً,فقد عاشرت مجموعة من مرضى الصمامات وجدتهم في منتهي الطيبة والعزيمة,واذكر منهم طارق بدير كانت لديه عيوب في صمامات القلب وكان يخدم المرضى جميعاً في مستشفي السجن,كانت همته تعلو مرضه.
• صورة الطفل حازم التي انتشرت في الفيس وهو جالس في المنزل بعد وفاة والدته والتي كان يضع يديه علي خديه بطريقة تلقائية ومعبرة أثارت الشاعر المبدع الصديق/هشام فتحي”أبو خلاد”فكتب يقول:”يده على خده ودمعته يفركها بكلتا يديه,وأما ما في القلب لا يمسحه النسيان ولا تقلب الزمان,يبدو أنه ينتظر والدته لتحل له الواجبات وتسمع له مقرر القرآن,ينتظر التي كانت تنتظره ويصبو للتي كانت تحنو إليه,على درج السلم وعند الباب وفي الذهاب وفي الإياب,الليل يا حازم طويل,والتذكارَ موجع، لا تذهب قلبك حسرات على الذكريات، المشوار أمامك طويل والبوح لا وقت له والحنين أصدق المشاعر,والشوق لا شاطئ له.
• وهل أتاك حديث الذاكرة؟ الدفتر والكتاب والمسطرة وعلبة الهندسة وقارورة الماء في شنطة المدرسة، والحنين والحنان والشوق والبوح في قاع الوجدان.
• لمن تحمل بعد اليوم شهادة النجاح يا حازم؟ ولمن تشكو صعوبة اختبار نصف العام ونصف العمر ونصف الأحلام؟.
• لمن تبث نجواك من حديث المعلمة تقسو عليك، لمن تبوح بالأشياء والحاجات التي تحبها وتحتاجها وريناد؟.
• أنت أول البوح وآخرهن وأنت ظاهر النجوى وباطنها، وأنت مستقر الشكوى ومستودعها وأنت حاضر الشوق وغائبه.
• اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم قارئا ماهرا للأحلام والأوجاع المسافرة، اضمم إليك جناحك من الشوق، ولا تبسط يدك للريح، الريح لا تحمل البشرى طويلا، وخذ بيدك ضغثا من الأحلام واجعل على كل وجع منها جزءاً، يبرد الوجع ويهدأ الحلم، ويرتاح الخاطر، يا ذا القلب المفؤود، وذاكرة الأطفال التي شيبها الزمن، أنت على موعد مع الأقدار والله وحده يتولاك، ويرضيك، ويصنعك على عينه.
• سلام علي الأيتام، وسبحان من أوصي بهم: ” فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ “.

اقرأ أيضا:

زر الذهاب إلى الأعلى