د. ناجح إبراهيم يكتب: أنا وزوجتى.. تكامل قدرى
كتب الدكتور د. ناجح إبراهيم مقالا بعنوان : “أنا وزوجتى.. تكامل قدرى”نشرته صحيفة “المصرى اليوم” وفى التالى نص المقال:
■ شاءت الأقدار أن أتقاسم الحياة والتدين مع زوجتى فهى أشبه الناس بأمى قليلة الحديث كثيرة الطاعات والقربات، فهى صوامة للنوافل قوامة لليل تحب المنزل ولا تحب الاختلاط الكثير بالناس، وتميل للمكوث فى منزلها وهى التى وقفت إلى جوارى سنوات طويلة فى محنتى وقفة الوفاء والعطاء دون كلل وملل رغم أن إمكانياتنا كانت صفرا لكنها لم تشك لأحد ما تعانيه لا من أسرتى ولا أسرتها.
■ والعبد لله لا هو من صوام النوافل ولا من أهل قيام الليل ولا من العباد فالصحة والصداع النصفى لا يعينان على الصيام، خاصة فى عمرى المتقدم، أما القيام فرغم مشاغلى الكثيرة إلا أن ذلك لا يبرر تقصيرى فيه، لكنى أكمل زوجتى بأن سخرت حياتى كلها لخدمة الناس كل الناس، والسعى على حوائجهم وقضاء مصالحهم، لا أفرق فى ذلك بين محب ومبغض ومن أحسن إلى ومن أساء، ومن كان على فكرى أو خالف آرائى، ومن كان مسلما أو مسيحياً.
■ وأفضل ما وهبنى الله إياه أننى أحب كل الناس ولا يقصدنى أحد فى حاجة أو أزمة أو كرب إلا وساعدته بكل جوارحى ما استطعت إلى ذلك سبيلاً فإن كانت مشكلته أكبر من طاقتى بكلمات طيبة، ودعوت له بالفرج واليسر.
■ وأشترط فى قضاء أى خدمة أن تكون هذه القضية عادلة أو طريقاً للوصول إلى حقه الذى لا يستطيع الوصول إليه أو التوصل إلى خدمة أهلية أو حكومية مشروعة قد يعجز عن الحصول عليها بيسر وسلاسة، لقلة حيلته أو عجزه عن الوصول لأصحاب القرار فيها.
■ وقد ورثت بعض هذه الصفات عن والدتى وهذا عرفنى فى كل مجال على رجال من ذهب يحبون صنع الخير للناس فى صمت، ويحسنون إلى الخلائق، ولا يضيقون أبداً بحاجات المكروبين والمحرومين المتكررة، وهؤلاء من كل الوظائف ولا يحبون أن يعرفهم أحد، وبعضهم قد يقرأ أحد مقالاتى الإنسانية لمكروب أو مريض فيتصل بى ويعرف بياناته ويقضى حاجاته.
■ وقد علمنى ذلك أن صناع الخير فى مصر لا حصر لهم، وأن الخير وصناعته وبذل المعروف متأصل فى معظم شرائح الشعب المصرى العظيم مسلمين ومسيحيين، أطباء وضباط، وزراء ومسؤولين، تجار ورجال أعمال، رجال وسيدات، كل حسب طاقته ومقدرته وموقعه.
■ وهناك فى مصر قصص للإحسان والبر والإنفاق وبذل المعروف وصنع الخير لا تقل روعة عن القصص التى رويت أيام السلف الصالح، ولولا ذلك ما عاش الفقراء فى مصر وعلموا أولادهم وعالجوا مرضاهم.
■ خدمة الناس عرفتنى بأناس، تحسبهم من أولياء الله دون لحية أو سمت التدين الظاهرى فهم يحسنون باستمرار إلى الخلق، ولا يردون صاحب حاجة، ولهم عمل خيرى مؤسسى حتى لا يموت الإحسان بموتهم أو يتركوه لأولادهم وأحفادهم والذين لا يحملون غالباً هبة وصنعة الإحسان للخلائق وبذل المعروف.
■ وخلصت أن الله اصطفى لصناعة المعروف وتفريج كربات الناس عباداً اختصهم الله لحاجة عباده يحسبهم الجاهل بهم أنهم لا شأن لهم بالدين أو الفضيلة وهم فى حقيقتهم من أعظم الناس فهما لمقاصد الشريعة.
■ وحينما تأملت أهل الإحسان وتفريج كربات الناس والسعى فى حوائجهم وجدت أن بعضهم ساهم فى مشروعات خيرية كبيرة مثل «بناء مساجد، جمعيات خيرية، مستشفيات خيرية… إلخ» ووجدت أن معظم الأغنياء ورجال الأعمال لهم أكبر إسهامات فى صنع وبذل المعروف رغم أن البعض يريد إهالة التراب عليهم، ووجدت أن أكثرهم لا يحب الحديث عن نفسه وبعضهم بدأ صنع الخير بطريقة فردية، ثم حولها إلى عمل مؤسسى ليدوم ويستمر وينضبط مالياً واجتماعياً وإدارياً.
■ ولزوجتى كلمة أثيرة كلما عرفت واحداً من هؤلاء «لعل الله أغناه ووسع عليه لخصلة بذل المعروف التى بداخله».
■ وقد وجدت أن معظم المحسنين ومفرجى كربات الناس ورثوا هذه الخصال عن والديهم، وأن بعضهم يستحضر دوماً وصايا والدته بالذات فى مثل هذا المجال، وقد أحصيت عشرات الحالات التى وجدت فيها الجد والابن والحفيد على نمط واحد من الإحسان.
■ وخلصت من رحلة عمرى إلى أن صناعة الخير والمعروف فى أى إنسان تأتى من رافدين مهمين أولهما الجينات المتوارثة والتى كان يطلق عليها الغزالى «النفس» أى أن الله فطره وحببه فى الإحسان، أما الرافد الثانى فيأتى من التجارب الإيمانية والحياتية المتكررة فى هذا الباب مع والديه أو أساتذته أو مع نفسه، حيث يجد أن لذة التجارة مع الله لا تعادلها لذة.
■ وقد أعانتنى مهنتى كطبيب يعرف أجيالاً من الأطباء على هذه الرسالة «خدمة الناس»، وتعلمت شيئاً هاماً من حياتى، أنك إذا نويت صنع الخير لأحد فسوف ييسر الله هذا الأمر مهما رأيته صعباً أو شاقاً أو بعيداً، فقد يراودنى الشيطان أن أرفض قضاء هذه الخدمة لصعوبتها لكننى أغالبه وأقول لنفسى: لا بأس من المحاولة دون أن أعطى صاحب الخدمة أملاً فى قضائها أقول له: فقط سأحاول.
■ أذكر فى إحدى المرات أن رجلا من بلدياتى لا أعرفه هاتفنى قائلا: ستجرى لى جراحة قريبا عند الأستاذ الدكتور فلان، وهو أمهر جراحى عمود فقرى فى الصعيد، وأرجو أن تكلمه ليخفض لى عشرة آلاف جنيه من أجرها، فقلت له: هل هناك جراح يترك هذا المبلغ الكبير مرة واحدة قال: نعم لو طلبت منه لفعل، هكذا علمت، قلت: لكنه لا يعرفنى، قال: كثيرون قالوا إنه يعرفك، وإنه سيستجيب لرجائك، قلت له: لم يحدث مثل ذلك لى من قبل، لكنى سأجرب، عندما تدخل عنده أعطه التليفون، فحدثته وأنا فى حرج أن يردنى فإذا به يرحب بى بشدة ويذكرنى أننى كنت أحفظه القرآن وهو صغير مع جراح عظيم آخر، وأنه مستعد لأى شىء أطلبه حتى ترك الأجر كله، قلت له: اترك له عشرة آلاف فقط فقال: اعتبرها كذلك، وتمت الجراحة بخير.
■ وأنصح كل من يخدم الناس ألا ينظر لأى اعتبار سوى الرحمة بهذا الإنسان، وألا ينتظر منه أى جزاء أو شكر لا مادى ولا معنوى، وألا يقبل منه أى هدية لأنه لم يكن يهديك من قبل شيئا، فإذا قبلت هديته مهما كانت بسيطة ظن بوساوس شياطين الإنس والجن أنها مقابل للخدمة، وعليك أن تكون حاسما فى ذلك فلا تقبل منه أى هدية رحمة بك وبه، وقطعا لأى ذريعة تنفى الإخلاص الذى لو ضاع منك ما تيسرت أمورك فى خدمة الناس، وعليك أن تشكر دوما كل من يحسن إلى الناس، وكأنه أحسن إليك شخصيا، وليس إلى طالب الخدمة، لأنه أحسن إليكما معا، إذ جعلك تنال ثوابا وأجرا أنت فى حاجة إليه.
■ وفى الحقيقة الإنسان المصرى خدوم بطبعه، خاصة الأصلاء ومن تربوا فى الأسر العريقة التى تربت من قبل على ذلك ثم ربت أولادها عليه، وأكاد أحصى فى عقلى الكثير من هذه الأسر العريقة، وهذا قل فى هذه الأيام مع الانفصال اللاشعورى لجيل الأبناء عن الوالدين بسبب الموبايل وانشغالات الحياة.
■ خدمة الناس وتيسير حاجاتهم تجمع دوما بين أهلها ومحبيها وتربطهم برباط عجيب من المحبة والمودة، وما رأيت أحدا يخدم الناس إلا أغاثه الله من محنه، وشجرته تظل وارفة الظلال على الآخرين، من تجليات قوله تعالى «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ» أن من أراد البقاء حياً بشخصه أو بسيرته الطيبة فلينفع الناس، فالبقاء والخلود والذكر الحسن سيكون لمن ينفع الناس.
■ والآن نريد من كل أب وأم أن يعلموا أولادهم خدمة الناس وقضاء حاجاتهم، فأولئك من اصطفاهم الله لنفسه وأختصهم لحاجة عباده «فهم الآمنون يوم الفزع الأكبر» بما أمنوا عباده من هلع وحزن وهم الكربات والحاجات والأمراض والديون.
■ سلام على من يحب الناس ويخدمهم ويكرمهم، وقد ألفت دعاءً لنفسى أردده دوما: «اللهم أكرمنى وأكرم بى، وارحمنى وارحم بى وأسعدنى وأسعد بى، وأهدنى واهد بى».