د. ناجح إبراهيم يكتب: محمود عاصم يلحق بأبيه في مأساة مروعة
كان حافظاً للقرآن, رباه والده الشهيد العميد عاصم علي العطاء وصلة الرحم , وربته والدته الكريمة علي الإحسان للخلق.
رغم حصوله علي مجموع مرتفع في الثانوية العامة إلا انه أصر علي الالتحاق بكلية الشرطة, كانت المأساة الكبرى والحادثة العظمي حينما لقي ربه شهيداً في حادث مؤلم وكأن القدر يكرر معه ما حدث مع أبيه الكريم العميد أ.ح دكتور/ عاصم الذي استشهد في حادث مماثل منذ سبع سنوات بعد حصوله علي الدكتوراة في العلوم العسكرية, فقد كان من الضباط المشهود لهم بالكفاءة والقوة في سلاح المشاة, أهم أسلحه الجيش وكان قائداً لأحد الألوية المهمة وكان محسنا غاية الإحسان.
وهذا مقالي الذي كتبته العميد أ.ح دكتور عاصم صبري.. عقب استشهاده منذ سبع سنوات, وكان عنوانه: “العميد أ.ح/عاصم صبري.. وداعاً وسلاماً”.. خالص عزائي لهذه الأسرة الفاضلة الكريمة, وفى التالى نص مقالي:
تزرع حوادث الطرق يومياً الألم في القلوب والدموع في العيون واليتم للأطفال وتزيد الثكالى والأرامل مع حصدها لعشرات الأرواح .. إنها تعصر قلوبنا غماً على أحبة فقدناهم ..وتملأ بيوت المصريين بين الحين والآخر بالنواح والصراخ .
وكان ضمن ضحاياها الصديق العقيد أ. ح/عاصم صبري الذي كان نموذجاً فريداً في العلم والخلق والتدين والفضل والكرم والرجولة .. والحاصل على شهادات عسكرية علمية كبرى رغم شبابه .. فقد حصل على ماجستير العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان والدكتوراه من كلية الحرب العليا وزمالة أكاديمية ناصر العسكرية .
لقد ورث حب العلم من أبيه العلامة الشيخ/ صبري عبد اللطيف أبرز علماء “المطاعنة”.. والأول على كلية أصول الدين بامتياز مع مرتبة الشرف.. ولولا رفضه للتدريس بالجامعة وإيثاره الدعوة ببلدته لأصبح من أكبر علماء مصر .. وقد كان من تلاميذه أ.د/ عبد الفتاح العواري “عميد أصول الدين” وهو من أولاد عمومتهم .
والصعيد يقتل الملكات.. وهو الذي قتل ملكة وعلوم الشيخ صبري الذي كان يعد من أبرز العلماء .. حتى أن تلميذه أ/ سعد المطعني سجل معه حلقة لإذاعة القرآن الكريم من المسجد العمري تحدث فيها ثلث ساعة.. وإذا بالمكالمات التليفونية تنهال على الإذاعة طلباً وسؤلاً عن الشيخ صبري فيخبرهم المطعني أنه لا يخرج من بلدته .
لقد تحمل الشيخ صبري وأسرته مسئولية الدعوة في المنطقة كلها .. وكان والده عالماً كذلك وله مؤلفات وشروح بعضها لم يطبع .
والمطاعنة كانت تنافس جرجا وطهطا قديماً في العلم والفقه واللغة والأدب.. ويكفي أن المطاعنة هي التي خرجت الحنجرة الذهبية الشيخ / عبد الباسط عبد الصمد الذي تلا القرآن بصوته الملائكي الرائع في العالم كله.. وأسلم عشرات الآلاف على يديه.. وقرأ القرآن في المسجد الكبير ٍفي جاكارتاٍ من العشاء حتى الفجر.. وقرأ القرآن في الهند بحضور “أنديرا غاندي وأركان حكمها” تستمع إليه في خشوع.. وقرأه في مجلس النواب الفرنسي.
“الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ” هكذا قال رسول الله “ص” وقد ورث العقيد “عاصم” عناصر الذهب والفضة والكرم والتقوى والرجولة والعلم من والده العالم الكبير.. ومن جده أشهر علماء المطاعنة.. ومن جد جده الذي كان عضواً بمجلس النواب.. ومن جده الآخر أحمد فراج أول وزير خارجية لمصر بعد ثورة 23يولية.
الناس معادن حقا منها الذهب والفضة والماس وعلي ذوي المعادن الثمينة أن يشكروا الله علي ذلك وأن يحافظوا علي نقاء معادنهم وأسرهم بالتقوى والصلاح والعلم والكرم والجود والإحسان إلي الخلق ومصاهرة الصالحين ومنابذة الفاسدين .
وهناك معادن من الناس أشبه بالزرنيخ والرصاص وهي معادن سيئة يكثر فيها الخبث وتنتشر فيها الرشوة وتسعد بالفساد والإفساد وتفرح بالبغي والظلم .
وقد حدثني أصدقاء العقيد/ عاصم أنه ظل جادا ورجلاً طوال حياته ولم يتحدث كغيره من الشباب عن البنات وتوافه المراهقين ولم يبخل أو يجبن في مواقف البذل ولم يأخذ مقابلاً لمعروف أسداه لأحد.. فقد اقتفي سيرة أبيه وجده .
فقد كانت هناك سيدة عجوز صدر عليها حكم نهائي لتوقيعها علي “إيصالات أمانة ” فلما علم بذلك دفع المبلغ وأنقذها من سجن محقق.. وكان صناع الخير من أقاربه كلما طالبوه بالمساهمة في أي مشروع خيري تبرع مرات ومرات.. وكان يقول لأقاربه: “إن أسرتي تعيش في بلدتي وهذا يجعل تكاليف الحياة يسيرة وكل زيادات مرتبي أصنع بها الخير للفقراء”.
ولما توفي علم بعض الأيتام في بلدته أنه الذي كان ينفق عليهم .. فقد كان يجعل وسيطاً بينه وبين الفقراء من أقاربه دفعاً للرياء وطلباً للزهد ورغبة في أن يكون من الأتقياء الأخفياء.. وكانت إحدى اليتيمات علي موعد لشراء شيء علي نفقته فطلبت أحد أقاربه الذين كان يوسطهم في ذلك فبكي وهو في جنازته قائلاً لها: “إن الذي كان ينفق عليكم مات اليوم ..”. فالمرحوم عاصم سليل أسرة كريمة أنفقت معظم أرضها علي مشاريع الخير فجده هو الذي تبرع وبني مسجد العمري وبيت الإمام الملحق به .
وقد كانت آخر كلماته علي صفحته بالفيس بوك “اللهم ارزقني الشهادة في سبيل الله والوطن ” وكتب: “تفوح دماء الشهداء عطراً ذكياً ينادي همة الشباب بالنعيم الذي يعيشون فيه ” .
لقد أراد رسول الله أن يغير فكر بعض الصحابة الذين كانوا يقصرون الشهادة علي الذين يقتلون في الحرب .. فقال لهم الرسول “ص” إذاً شهداء أمتي لقليل ثم ذكر أصنافاً أخرى من الشهداء مثل:”المبطون والغريق وصاحب الهدم والمطعون “أي الذي أصابه الطاعون ” الخ …
وقد تأملت الحديث قائلاً لنفسي: لو كانت السيارات والطائرات أيام رسول الله “ص” لأضافهم للشهداء.. وهل الذي يتهدم بيته أو يتهدم البنيان فوق رأسه يلاقي هولا أكثر من الذي يموت في حادث سيارة أو طائرة ويلاقي وأسرته الأهوال .
.لقد فكرت في الأمر مراراً ووجدت أن هذا العدد الذي ذكره رسول الله “ص” في الحديث يعد أمثلة وليست للحصر والقصر.. ويصح القياس عليها ولا تعد أمراً توقيفياً .. وقد وافقني في اجتهادي علماء وفقهاء كثيرون.
لقد جربت أسرتي منذ سنوات بعيدة آلام الوفاة في الحوادث.. وكان ذلك مع شقيقي الأكبر وكنت يومها في الرابعة الابتدائية ولكني لا أنسي هول هذا اليوم حتي الآن .
إن أكثر ما يحزنني في هذه الدنيا اختفاء معادن الذهب والفضة واحداً تلو الآخر .. وكأنهم قد ضاقوا بدنيانا.. أو عجزوا عن التكيف مع مفاسدها وأهوائها .. لقد أراد العقيد /عاصم أن يلحق بأبيه الذي علم “المطاعنة” كلها الدين والصدع بالحق.. وكان إذا تكلم أسمع.. وكان ولياً من أولياء الله الأخفياء فاعتمر مرة وكان بصحبته الإعلامي/ سعد المطعني الذي عجب لتأخره عن زيارة الرسول “ص” فقال له الشيخ / يا سعد يا بني .. الدخول علي الرسول وهو ميت كالدخول عليه وهو حي .. ولا بد من التهيؤ والاستعداد القلبي لذلك.. ثم توضأ ولبس أجمل ما عنده وتعطر وأخذ يقرأ القرآن .. ثم قرأ “بردة البوصيري” بتأثر شديد .. وبعض الأشعار الأخرى في مدح النبي.. حتي إذا وقف بين يديه ظل يبكي ويرجف ويرتعد حتي مضي .
لقد لقي العقيد/ عاصم حتفه وهو عائد إلي وحدته العسكرية في طريق الصعيد الغربي عند البلينا في طريق فردي غير مزدوج فصدمته من الأمام سيارة نقل واستشهد ومعه الجندي السائق .. ألم يأن للصعيد أن يهتم به أحد .. ألم يأن للصعيد أن يكون له طريق آدمي جميل ومزدوج وله عدة حارات مثل طريق مصر إسكندرية الصحراوي .. ألم يأن للصعايدة أن يستريحوا ولو قليلاً .. ألا تكفي كل هذه الدماء علي طرقه أن تذكر بمآسي البؤساء في الصعيد .