د. قاسم المحبشى يكتب: في وجه الشبه بين بيت العائلة وبيت السياسة

بيت، دار ، سكن ، ماوى ، مقر، وطن، كيان ، إطار ، خيمة، ملاذ، مبنى، مثوى، محوى، مغنى، مقام ، منزل، مستقر. عائلة أسرة.. الخ من الأسماء والصفات التي نطلقها على المكان الذي يجمع شمل الأقرباء الزوجين، الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأخوة والأخوات، والجدود والجدات، وكل الذين تربطهم قرابة عائلية.

وأول المدينة كهف أو مغارة أو موطئ قدم يحتله الإنسان ويجد فيه أسباب العافية والأمن والأمان، فيدافع عنه وطناً في العراء قبل اللجوء الى الكهوف والمغارات.

وأول الحضارة هو الأحساس بالخوف من العجز والوحدة.

كل هذه الإحساسات التي تنتاب الإنسان في جميع الأزمنة، وفي كل مكان وفي جميع العصور، هي فطرة وغزيرة وطبع دفعه للبحث عن حلول عملية لها.

إن البحث عن القوي الدائم الثابت الأزلي، البحث عن المعنى حيث لا معنى، البحث عن النظام فيما وراء الفوضى، البحث عن الواحد فيما وراء الكثير، البحث عن الأبدي خلف الزمني، البحث عن الخلود فيما وراء الموت والفناء، البحث عن الحاضر فيما وراء الزائل هي من أقوى الدوافع في ذات الإنسان.

بل أن الظروف الفسيولوجية والحاجة إلى الحفاظ على الذات ليست هي الجانب الوحيد في طبيعة الإنسان، بل هناك جانب أخر ضاغط بالمثل وهو جانب ليس قائماً في العمليات الجسمانية بل هو قائم في صميم الحالة الإنسانية وممارسة الحياة ألا وهو الحاجة إلى التعلق بالعالم خارج النفس الفردية الحاجة الى تجنب الوحدة.

“إن الشعور بالوحدة والعزلة تماما يفضي إلى الموت، حتى روبنسون كروزو المنفرد كان يصحبه “فرايداي” بدونه كان من المحتمل أن يموت” فكم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه الدائم لأول منزل.

فما أوجه الشبه بين البيت والوطن؟ وبين الأسرة والدولة؟

وجوابي هو أن الدولة هي بيت المجتمع في أرضه وبلاده وكما أنه يصعب الحديث عن الأسرة والعائلة بوصفة خلية المجتمع الأولى إذ لم تسكن في بيت يأويها وتجد فيه مستقرا لها فكذلك يصعب الحديث عن الوطن بدون دولة بوصفها الكيان المؤسسي الوطني الجامع الذي يحتوي جميع أفرده بوصفهم مواطنيين على درجة متساوية من الحقوق والكرامة والقيمة والأهلية.

ولا يمكن التعرف على ملامح العائلة التي يهيم أفرادها على وجوههم في الفضاء الطلق بدون بيت يأوون اليه في أخر النهار الحال هنا يشبه حياة الحيونات المشردة.

ومن هنا نفهم معنى أول شرط من شروط الموافقة على زواج الفتيات الشابات للأولاد هو وجود البيت أو السكن الذي يأويهم.

وكلما كان البيت ملاكي كلما زادت الثقة باستمرار مشروع الزواج ومستقبله، ويعد المنزل أهم مقومات الحياة المستقرة للعائلة الأبوية والنووية وفي هذا يتنافس الناس ويفاخرون بحجم منازلهم وسعتها وجودة تأسيسها وعدد غرفها وفخامة تأثيثها وجودة مرافقها ونظام تشطيبها ومظهرها الخارجي والداخلي وأشياء كثيرة أخرى.

وكذلك هو حال الشعوب التي تحب أوطانها في تأسيس دولها في كيانات مؤسسية راسخة وقوية تحفظ وتصون كرامة المنتمين اليها وتحميهم من التشرد والجوع والعطش والاغتراب والضياع فكيفما كانت دولتهم يكونون .

أن الناس في أرضهم بدون دولة تحميهم أشبه بأفراد العائلة بدون بيت يأويهم، ولا فرق بين البشر والحيوانات إلا بقدرة البشر استخدام اللغة والتفكير واستخدام الحواس لمعرفة العالم وفهم قوانينه والسيطرة عليها وتسخيرها لمصلحة الناس والقدرة على بناء المؤسسات التي تأطر حياتهم وتنظمها بالأخلاق والأعراف والقوانين.

وهذا هو معنى الحضارة بوصفها قوة تنظيمية في التاريخ تشتمل على السياسية والتشريع والأخلاق والمجتمعات التي عجزت عن بناء مؤسسات قوية ومستقرة لا تختلف عن الحيونات التي تجوب البراري بحثا عن الماء والكلأ في سلوكها الفوضوي وقد احتاجت الإنسانية ملايين السنين للانتقال من الحالة البدائية للعيش في كنف الطبيعة ومواردها المتاحة والانتقال من الصيد والرعي والبداوة إلى الزراعة والتمدن والحضارة.

وسادت الحضارة الزراعية من عشرة إلى ثمانية ألف سنة حتى القرن السابع عشر الميلادى، وهو تاريخ ميلاد الحضارة الصناعية التي سادت أربعة قرون فقط لتنتقل إلى الحضارة الجديدة حضارة الثورة المعلوماتية وسيادة المعرفة بوصفها أهم مواد القوة والثروة والصراع الجوهري في القرن الحادي والعشرين.

وكما هو حال أفراد العائلة بذواتهم الفردية يلعبون ويتنافسون ويتخاصمون ويتضامنون تحت سقف بيتهم فكذا يفعل المواطنون الذين لديهم دولة تحميهم وتضمهم يمكنهم ان يتنافسون ويتخاصمون ويلعبون ويقتتلون تحت سقف دولتهم أمًا بدون وجودها فهم أشبه بالذئاب المتوحشة.

فلا وحدة ولا توحد ولا وطنية ولا مواطنيين بدون دولة مؤسسات عامة تحمي الناس من بعضهم وتحمي سيادة البلاد من التهديدات الخارجية. والفرق بين بيت الأسرة والدولة هو أن الأولى يجمع الأقارب بينما الثاني يجمع الغرباء فالمجتمع المدني هو مجتمع الغرباء, إذ أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً.

فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية.

والمجتمع الحميم على عكس تأكيدات أصحابه , هو مجتمع فظ؛ لان الحياة المدنية ( هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضاً, ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر) فالعيش مع الناس لا يستلزم ( معرفتهم) ولا يستلزم التأكد من أنهم ( يعرفونك).

والحياة المدنية تتواجد عندما لا يجعل المرء من نفسه عبأ على الآخرين” وبالخلاصة يمكن لنا التأكيد على أن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للحياة العامة المشتركة عن مجالات الحياة الأخرى، لا يمكن له أن ينمو ويزدهر ألا في ظل وجود دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقانون.

اقرأ ايضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى