د. قاسم المحبشى يكتب: في غواية الفلسفة وعشقها
ذات يوم جلست مع شابين يمنين في القاهرة أحدهما من صنعاء يدرس طب الأسنان في جامعة عين شمس والأخر من يافع يدير مطعم يمني في الجيزة.
عرفت أنهما صديقين منذ كان في المملكة العربية السعودية مع أسرتيهما فاضطرتهما الإجراءات الاخيرة في المملكة وشروط الإقامة الباهظة إلى السفر إلى مصر الحانية التي تحتضن الجميع.
جلسنا في منزل الشاب حمود الشعبي اليافعي الذي اتصل بصديقه محمد الماربي عونة بغرض الجلوس معي بوصفي متخصصا بالفلسفة والفلسفة فقط وذالك بعد أن علما بإصداري كتاب استئناف الدهشة؛ تأملات في آفاق الفلسفة وواقعها.
لم يكن يخطر ببالي أنهما على دراية بتاريخ الفلسفة وعوالمها فإذا بهما يكشفان لي عن ثقافة عميقة بأم العلوم بما لم يكن بالحسبان أبدا، إذ تبين لي من خلال الحوار معهما الذي استمر لمدة اربعة ساعات متواصلة انهما على دراية واسعة بكتب الفلسفة التخصصية الصعبة التي لم يقرأها بعض أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية أنفسهم.
ناقشاني في كتب أمانويل كانت وهيجل وفيوباخ ونيتشة وهيدجر وجان بول سارتر و رسل وفي فلسفة التحليل النفسي فرويد وجان باجيه ولا كان وفي البنيوية لـ ليفي شتراوس وميشال فوكو، وفي الفلسفة الأمريكية شارل بيرس وجون دوي ووليم جميس وغيرهما.
وحينما سألتهم عن كيف حصل ذلك ؟ أخبراني أنهما في أثناء الدراسة الثانوية بالمملكة السعودية كانا يخصصان مبلغ ٥٠٠ ريال لشراء الكتب الفلسفية، وقراءتها أثناء العمل في محلاتهم أحدهم كان يدرس ويعمل مع والده في محل لبيع الذهب والأخر كان يستعير منه الكتب التي يشتريها.
وحينما سألتهما عن سبب اهتمامهما بالفلسفة؟ ومن الذي دفعهما لذلك؟ أجاباني بأنهما يحبان الفلسفة رغبة وهواية ذاتية خالصة منذ تفتق وعيهما، مؤكدان أن ما وجدها من كتب أخرى لم تشفي ظمأها للمعرفة الجديرة بالقيمة والأهمية والاعتبار.
اخبرتهما بأنهما مثقفان دون علمهما. تلك الجلسة الفريدة واليتيمة كشفت لي معاني كثيرة منها؛ أن الفلسفة بوصفها فنًا للحياة لا مجرد افكارا مجردة يمكنها أن تجذب كل عقل مستنير يبحث عن المعنى، وأن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، لكنهم يختلفون بطريقة استخدامه، إذ تجدهم يطلبون المزيد من كل شيء ما عدا ذلك الشيء الذي ينقصهم دائما أي العقل؛ إذ تجدهم يعتقدون بأنهم مكتفين منه حتى الذين لا يمتلكون منه النذر اليسير أي المجانين! يعتقدون بأنهم أعقل العقلاء! وأن كل انسان يمكنه التفكير الفلسفي دون أن يدرس الفلسفة بالضرورة وأن الحاجة إلى الفلسفة حاجة إنسانية تعني كل إنسان يفكر.
والخلاصة هي ربما يعتقد معظم الناس أن الانشغال بالفكر أي بالعقل ونشاطه الفكري المجرد هو ترفا يمارسه الفلاسفة ولا طائل منه أن لم يكن مذموما لا سيما في المجتمعات العربية الإسلامية.
لكن تعالوا ننظر في طبيعة هذا الاعتقاد الناجم من الاكتفاء بالجهل.
والسؤال هو بما أن الفلسفة هي نشاط العقل فما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لفهم العالم واكتشاف حقائقه؟ هل، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء، يجهل بالمقابل ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟.
بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته “السندبادية لتعقل ” الآخر” أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب” فإن الحاجة إلى نقد أوثان العقل وأوهامه هي حاجة حيوية ودائمة ذلك ينجم من طبيعة العقل ذاته فهو ليس مهجعا مهجورا لتخزين المعرفة والمفاهيم كما هو حال مخازن الاشياء والنقود والمجوهرات والبضائع.
ومن الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من أعضاء الجسم إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أو الدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح إذا كلنا يعلم علم اليقين بان ليس هناك شيئا ملموسا محسوسا اسمه العقل، يمكن رؤيته بالحواس المجردة؛ العقل مفهوم مجرد وليس عضوا ماديا يطلق على ممارسة أو نشاط يباشره الإنسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية.