عاطف عبد الغنى يكتب: «القاهرة السينمائى» يكرّم عبقرى الدراما الصهيونية
ترددت كثير وضغطت على مشاعرى قبل أن أكتب العبارة التالية: “إنه عبقرى السينما الذى خدم قضايا اليهود والمسألة اليهودية، كما لم تخدمها الدعايات المباشرة أو أكبر السياسيين فى الخمسين سنة الأخيرة على الأقل”.
هذا المقال عن المخرج السينمائى اليهودى ستيفن سبيلبرج، الذى يعرض له مهرجان القاهرة السينمائى، فى دورته القادمة الـ (44 فيلم الافتتاح) المعنون بـ “The Fabelmans”.
وإذا شاهدت الإعلان التشويقى “التريللر” للفيلم، المحتفى به فى صورة اختياره لحفل افتتاح “القاهرة السينمائى” ربما تلاحظ فى لقطتين عابرتين ما يشير إلى إبراز الأصول العقيدية لبطل الفيلم الطفل الصغير اليهودى، وأسرته، فى لقطة منهما يضع أب الطفل شمعة مضيئة فى الشمعدان السباعي، أو “مينوراه” كما يطلق عليها بالعبرية، وهى رمز دينى يهودى معروف، وفى الأخرى يخبأ الطفل شىء ما فى خزانة ميزها بعبارة “مخبأ يهودى”.
والفيلم يحكى جانبا من السيرة الذاتية للطفل سام أو سامى فيبلمن، الذى هو نفسه المخرج “ستيفن سبيلبرج” فى طفولته، على خلفية تأثير سحر السينما على طفولة سبيبلرج، وتأثيرها فى نظرته للحياة وتصوراته، وانعكاس هذه على حياته المهنية فيما بعد، وبالطبع سوف يتخلله رسائل خاصة باليهود لن تخطأها عين الناقد المدقق.
وإذا لم تكن هذا الناقد أو المتابع للسينما وأخبارها، وتأثير سبيلبيرج فى تاريخها الممتد للقرون الأربعة الأخيرة فقد تتصور أننى أبالغ فى تقدير ما فعله هذا المخرج بأفلامه، وكيف اجتذبت هذه الأفلام تعاطف قطاع كبير جدا من المشاهدين – وهى جماهير عريضة – مع اليهود، وساهمت فى تصديقهم المطلق، واللا متناهي مع أساطير “الهولوكست” التى نعرفها فى أدبياتنا العربية بالمحرقة النازية لليهود، وكيف مررت هذه الأفلام الفكرة الصهيونية بعبقرية السرد السينمائى، والحوار الذى تضمنته وهى الأفلام الأكثر نجاحا فى تاريخ السينما فى الغرب.
وإذا لم تكن تعرف تاريخ اليهود فى أمريكا وأوروبا، فلن تستطيع الحكم على مساهمة “سبيلبرج” فى تغيير النمط المعرفى أو الصورة الذهنية السائدة عنهم الـ” ستريو تايب” والتى كانت سائدة إلى ما قبل ثلاثة أرباع القرن الماضية، هذه الصورة التى حكى شكسبير جانبا منها فى مسرحيته الشهيرة “تاجر البندقية”، وتشبه هذه الصورة إلى حد كبير ما نشاهده فى أفلامنا المصرية عن يهود المدينة إبان البعثة المحمدية، وما كان اضطهادهم المزعوم طوال التاريخ وعرضه، وفى الغرب أكثر من الشرق، إلا بسبب القيم السلبية التى اقترنت بمجتمعاتهم، وسلوكياتهم، ومن الاتجار بالأموال والربا إلى نشر تجارة الجنس والدعارة، وصولا إلى جعل أكل فطيرة مصنوعة بدم بشرى لشخص مقتول طقس احتفالى دينى، وقد انتشرت القصص بهذا الشأن ومازالت فى المجتمعات الأرثوذكسية اليهودية.
وحسب تقرير نشره موقع “الجزيرة – ميدان” ، حمل عنوان: “سبيلبرغ.. صهيونية مخرج أميركي” يقول كاتب التقرير، إسلام السقا: ” يُصر سبيلبيرغ على إبراز الجانب اليهودي فيه، ليس عبر أعماله اليومية فقط، ولكن أيضاً من خلال أفلامه، فصانع أفلام “قائمة شندلر” و “إنقاذ الجندي رايان” و “ميونخ” و “لينكولن”، لا يوفر فرصة يدعم فيها الأفكار الصهيونية عبر تصوير مشاهد بعينها” (انتهى الاقتباس).
وهناك تصريح شهير منسوب للمخرج اليهودى الذى يحمل الجنسية الأمريكية سبيلبرج يقول فيه: “أنا مستعدٌ للموت من أجل إسرائيل”.
وإذا شاهدت الأفلام الصريحة التى صنعها سبيلبرج عن إسرائيل، والقضية الفلسطينية مثل فيلم ميونخ، أو عن اليهود مثل قائمة شندلر، سوف تكتشف كيف استطاع هذا المخرج قلب الحقائق واستبدال الظالم بالمظلوم وإعادة تعريف النضال من أجل الوطن من وجهة نظر صهيونية، للوصول إلى نتيجة يؤمن فيها المشاهد أن الاستعمار الصهيوني هو الحل الصحيح للمسألة اليهودية في أوروبا، وأن خروجهم منها إلى الوطن البديل الذى هو أرض فلسطين أمرا لا غبار عليه.
وفى فيلم أخر عن الرئيس الأمريكى “لينكولن” وهو الرئيس الذى اغتاله شخص يهودى، جعل “سبيلبرج” من الرئيس الأمريكى الذى اشتهر عنه عدم الإيمان: مبشرا مسيحيا بالأرض المقدسة لليهود، وجعل فلسطين هي تلك الأرض المقدسة، وأجرى “سبيلبرج” على لسان “لينكولن” كلاما لم يقله وفيه ينسب الأخير لنبىّ الله داوود وابنه سليمان (سلام الله عليهما) ما يعبر عن الحنين الديني لتلك الأرض المقدسة، هذه الأساطير المؤولة التى ربطتها الحركة الصهيونية السياسية بالدين في أدبياتها لتبرير وتسويغ الاستعمار.
ونعود إلى سبيلبرج وفيلم “القاهرة السينمائى” الذى يحكى جانبا من تطور حياة، سبيلبرج وعائلته اليهودية الأمريكية في منتصف القرن الماضى فى أمريكا، ويجب أن نتوقف هنا عند ملحوظة عابرة هى اسم الطفل بطل الفيلم واسمه: “سام” والذى يشير إلى العنصر السامى، أو السامية التى يدعى اليهود الانتماء إليها تفضيلا.
ونحيلكم مرة أخرى إلى تقرير “الجزيرة” المشار إليه آنفا ونقتبس منه جانبا من سيرة الطفل الحقيقى ستيفن سبيلبرج جاء فيها: “كان صمته وانزواؤه وضآلة حجمه أمراً عادياً، لكن اسمه اليهودي هو ما جعل منه هدفاً سهلاً للمضايقات في مدرسته بولاية أوهايو الأميركية.. والمشي في ممرات المدرسة بالنسبة للفتى “ستيفن” يعني مواجهة مستمرة مع الحياة واشتباكا دائما مع متاعبها التي ضمّت أشكالاً متعددة، تنوعت بين الشتم والضرب، واجهها وحده فخلّفته بأنف مهشم أكثر من مرة.
لكن تلك الوحدة التي سيطرت عليه دفعته لحَمل إرثه الشخصي من المعاناة باعتباره اليهودي المضطهد، حتى كبر فأسس جمعيّة خيريّة تُعنى بدعم المجتمع اليهودي وتنظيمه سمّاها “رجال الصلاح” قامت هذه الجمعيّة، في عام 2006، بالتبرع بمبلغ مليون دولار دعماً لدولة الاحتلال في حربها على لبنان”.
وما سبق مجرد جزء من الحكاية عن المخرج الذى رفضت القاهرة عاصمة مصر السياسية عرض فيلمه الكاذب “قائمة شندلر” فجاء مهرجان القاهرة يكرمه ويعرض له قصة طفولته.
اقرأ أيضا:
-
عاطف عبد الغنى يكتب: إسرائيل خائفة علينا.. «شوف ازاى ؟!»
-
عاطف عبد الغنى يكتب: النسخة الرقمية من الاستعمار الجديد