د. ناجح إبراهيم يكتب: من يومياتي (12)

كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان “يوميات شاب مصرى”وتم نشرة في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12/11/2022، وفى التالى نص المقال:
■ ولد من أسرة كريمة ولكنها فقيرة، والده لم يستطع دراسة صيدلة الأزهر لأنها فى القاهرة، وهو كان يعمل يوميًا من أجل مساعدة أسرته وتعليمه، دخل كلية الشريعة والقانون، لم يستطع استكمالها لضيق ذات اليد، تفرغ للمهنة التى احترفها منذ شبابه وهى النجارة.

■ ابنه مر بظروف أقسى منه وأصعب، فهو يعمل مع والده فى الورشة منذ الابتدائى، يخرج من المدرسة إلى الورشة، يبدل ملابسة هناك، يتناول الغداء فى الورشة، يعود آخر الليل مع والده ليذهب للمدرسة صباحًا.

■ شقاء متواصل لطفل صغير، يستريح الجمعة فقط، لا يعرف قاموسه الدروس الخصوصية، كلما ضاق رزق أسرته جمع الخردة من أعلى سطح الأسرة وباعها بجنيهين يعطيهما لأمه، أو يجمع الخبز الجاف وهو فى الصف الثانى الابتدائى ليبيعه ويمنحه لأمه المكافحة الكبرى فى الأسرة.

■ وصل إلى الصف الثانى الإعدادى، وجد أسرته على شفا الجوع «والدنيا واقفة معهم» كما يقولون.

■ ذهب إلى مخبز القرية التابع لمجلسها، كان يعمل ليلًا فى تكييس الخبز تمهيدًا لتوزيعه، اتفق مع مسؤولى المخبز على ألا يخبروا أسرته، يعود من مدرسته ينام قليلًا ثم يتسلل عند منتصف الليل للمخبز حتى قرب الفجر فيغير ملابسه ويعود للنوم، كان يعطى أمه 90 جنيهًا كل شهر، فكانت تجرى الدماء فى شرايين الأسرة الاقتصادية.

■ لاحظ المدرسون نومه فى الفصل، عرفوا السبب وأبلغوا والده، فعاقبه بشدة ومنعه من الاستمرار.

■ ضاقت حياتهم أكثر، فباعوا منزلهم فى إحدى قرى الأقاليم وقَدِموا للإسكندرية محل سكن الزوجة.

■ لم يستطع لظروفه المعقدة دخول مدرسة للمتفوقين، فدخل فى مدرسة فى منطقة شعبية وجد فيها الطلاب يحملون المطاوى، وبعضهم يدخن أو يحشش.

■ حصل على الإعدادية بمجموع مرتفع، دخل ثانوية خدمات من أجل مساندة أسرته بالعمل معظم الوقت، خاصة بعد إغلاق ورشتهم، بدأ العمل فى المقاهى، تدرج فيها من الكنس والنظافة وغسل الأطباق والأكواب إلى العمل فى الكافيتريات، كان يعمل فترتين ليوفر أعلى عائد، ظل على ذلك شهورًا ينفق على الأسرة حتى عاد للعمل فى الورشة، كان والده وقتها يعمل عاملًا عند كبار النجارين.

■ وصل إلى الثانوية العامة، أهلكه العمل المتواصل فى المقاهى والأكل من المطاعم وعربات السندوتشات.. قبل امتحان الثانوية العامة بأسبوع سقط مغشيًا علية، ذهبوا به إلى مستشفى الحميات تبين بعد الفحص أنه يعانى من التهاب كبدى وبائى.

■ جاءت امتحانات الثانوية العامة،رفضت طبيبة الحميات خروجه من المستشفى وقبلت أن يذهب للامتحان ثم يعود، لم تجد أسرته أجر التاكسى الذى ينقله يوميًا من وإلى لجنة الامتحان، ضاع الامتحان الذى لم يكن يحتاج سوى عشرة جنيهات يوميًا.

■ صبّرته أمه بأنه مريض وقد لا يستطيع الحل الجيد.

■ أعاد العام الدراسى، كان عامًا ثقيلًا على نفسه، عمل فى كافيتريات متميزة، أحب الجميع، تطور فى عمله حتى وصل لما يسمى «كابتن»، تفوق فى الثانوية العامة، دخل كلية علوم البيئة بالعريش، اعترض والده لعدم وجود النقود الكافية، أقسم ألا ينفق عليه، طلب أن يكتفى بالثانوية فالحِمل ثقيل، صممت والدته على استكمال تعليمه الجامعى، خرجت للعمل، تكفلت بنفقات الجامعة، أقسمت أن يتعلم أولادها جميعًا بالجامعة، تطورت فى عملها، بدأت الأموال تتدفق على جيبها الخاوى، تيسرت حياتهم نوعًا ما.

■ كانت الظروف صعبة، رأى أهوالًا شديدة فى العريش فى العام الأول أدى لإصابته بنوبة اكتئاب حادة عولج منها سريعًا، لم ترسل له أسرته سوى اشتراكات المدينة، تركته يدبر أمره، كان يهرب بلطف من دعوات زملائه لشراء ديلفرى من المطاعم بأى حجة «عندى مغص.. أنا شبعان»، لا يريد أن يعطف عليه أحد.

■ تفنن فى البحث عن طريقة للكسب مع الدراسة فى العريش، بدأ يعمل فى مكتبة كتابة رسائل الماجستير والدكتوراة، تعرف عليه أساتذة الجامعة، بدأ يطبع لهم الكتب، كان يختار أرخص المواصلات.

■ فى الإجازات يعمل تارة فى الكافيهات أو فى الورشة مع أبيه، كان لا ينفق فى الشهر سوى 400 جنيه، 300 للمدينة، و100 للمصروفات الأخرى، فى حين أن هذا المبلغ كان مصروف يد لطالب kg1 فى المدارس الدولية.

■ أحب زميلته فى الكلية، تواعدا على الخطبة بعد التخرج، رضيت به رغم ظروفه.

■ تخرج بتقدير جيد جدًا مرتفع، دخل الجيش، كان متميزًا فى كل شىء، اصطفاه القادة ليعمل معهم فى إجازات الجيش، كان يعمل فى الورشة أو الكافيهات، لم يعرف الراحة يومًا.

■ أنهى خدمته العسكرية، تحدث إليه والد فتاته أن الخُطّاب يطرقون باب ابنته فلابد من ارتباط حقيقى أو تركها لحالها، جمعت الأسرة ما استطاعت لتقديم شبكة بسيطة، كانت مع أسرتها تقدر ظروفه وتختار رجولته وشهامته.

■ دائمًا كان سندًا لوالده، يطيعه، يساعده، يعاونه، يدعم أسرته.

■ بدأ الفرج التدريجى فى الطريق، عملت شقيقته وهى طالبة، ذاقت الأمرّين كفاحًا، تخرجت وأصبحت محامية نابغة، بحث عن عمل يليق به.. بعد محاولات، وجد عملًا مناسبًا، ارتقى فيه سريعًا، أظهر فيه كفاءة مع أمانة، بدأت الدنيا تبتسم له، الجميع يعمل الآن عملًا جيدًا، وهو يساعد والده بعد عودته من عمله.

■ يستيقظ فى الخامسة فجرًا، ويعود من عمله فى الخامسة عصرًا، فيذهب بملابسه للورشة حتى يرتدى ثيابها هناك ويعمل مع والده حتى العاشرة مساءً.

■ كان يردد: هل سأعيش هكذا فى تعب متواصل؟!، لقد كُتب علىَّ العناء فيما يبدو، الحِمل خف عن والديه، ولكنه مازال ثقيلًا عليه، البحث عن شقة إيجار قديم أو تمليك بأقساط بسيطة أصبح معجزة فى مصر، أسرة خطيبته أمهلته عامين، لم يجد بُدًا من التقديم على شقة من شقق الحكومة فى انتظار فرج الله بالموافقة.

■ أخذ يستعرض شريط حياته الصعبة، لم يصدق أنه ضاع عليه عام فى الثانوية لأنه لم يكن يملك وقتها خمسة جنيهات أجر التاكسى، الآن الوضع أفضل بكثير، ولكن تكاليف الزواج أكبر من طاقته وطاقة أى شاب مكافح مثله.

■ كفاحه لم ينقطع أملًا فى غدٍ أفضل، لا يعرف اليأس إلى قلبه طريقًا.. تَديّنه ورجولته وبِرّ والديه، وقبلها إيمانه بربه، كلها يقف سدًا منيعًا أمام الإحباط أو اليأس أو الانكسار.

اقرأ ايضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى