طارق متولى يكتب: يوميات زومبى (52 ) منطق الزومبى

توفيت السيدة أم إسماعيل جارتنا التى ناهزت المئة من عمرها فجأة صباح اليوم الموافق السبت من أيام الأسبوع.

كانت تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها منذ سنوات، اكتشفت وفاتها سيدة أخرى كانت تأتى لخدمتها بالنهار وتغادر فى المساء.

لم ير أحد فى الحى أولادها: إسماعيل وحياة ونادية، فهم منذ زمن لا يأتون لزيارتها ولم تذكر لأحد أنهم كانوا يتصلون بها.

وفى سنواتها الأخيرة كانت قد فقدت بصرها، وجزء كبير من ذاكرتها، فكثيرا ما كانت تسأل المارة من شرفة شقتها بالدور الأرضى المطل على الشارع عن الساعة، وعما إذا كان الوقت ليلا أو نهارا، لكنها رغم ذلك كانت متماسكة تجلس فى الشرفة على كرسى من الخيزران متآكل وباهت بلون بنى فاتح بفعل التراب وكثرة غسله بالماء.

أصبحت أم إسماعيل فى أخريات أيامها نحيلة جدا كأنها هيكل عظمى مكسو بالجلد، عيناها غائرتان داخل محجرهما كأنهما ينظران على العالم من مكان أخر، لاترى شيئا إلا اشياء قديمة لم يعد لها وجود فى الحقيقة، تسأل أحيانا عن أشخاص رحلوا منذ زمن ومعالم لم يعد لها وجود .

ظهر ابنها إسماعيل المشاغب فجأة، وابنتاها أيضا حياة ونادية ومعهما أولاد وبنات يتجاوز عددهم الخمسة أو أكثر، تتراوح أعمارهم بين الطفولة والمراهقة بدون أزواج، جاءوا ليقتسموا المتاع الذى تركته والشقة نفسها التى كانت تعيش فيها.

ابنها إسماعيل الذى طالما تشاجر معها بسبب طلبه الدائم للنقود، ولم يكن ليستقر فى عمل أكثر من أشهر قليلة ويعيش متنقلا بين العشيقات البائسات اللاتى يحتجن للرعاية أكثر منه، كثيرا ما كان يجلب لأمه المشاكل بسبب الدائنين الذين يأتون للمطالبة بأموالهم والتشاجر معه بسبب ذلك، أو بسبب عشيقة أحدهم التى تعرف عليها إسماعيل واستحلها لنفسه.

راح إسماعيل الابن واختيه البنتين وأولادهم، بعد انتهاء العزاء يعلنون الحداد من خلال تشغيل آيات الذكر الحكيم من القرآن فى البيت عبر سماعات ضخمة تصدر صوتا يسمع الحى بأكمله على مدار الساعة، ليل ونهار، والجميع بالطبع يستحى أن يطلب منهم خفض الصوت أو حتى غلقه أثناء الليل فالظرف لا يسمح بذلك، فى انتظار أن تنتهى مراسم الحزن فى وقت قريب بعد أن مر على الوفاة ثلاثة أيام.

فى المنزل المقابل لمنزل أم إسماعيل كان يجرى الإعداد لفرح ناهد الابنة الكبرى للأستاذ رياض وحرمه السيدة وفاء المحدد له يوم الخميس بعد أربعة أيام على الوفاة.

فى السادسة مساءا يوم الزفاف أتت العروس من أول الشارع مع الأهل والأصدقاء بلباس الفرح حولها الجميع يحتفلون ويطلقون الزغاريد، يتقدمهم فرقة موسيقية شعبية تعزف الطبل والمزمار، وبعض الشباب يتراقصون أمامها بخفة يتنافسون فيما بينهم على أداء الحركات الراقصة والغريبة، وما أن مروا أمام بيت أم إسماعيل رحمها الله حتى خرجت بناتها يصرخن ويولولن فى وجه زفة العروس حتى غطى عويلهم وصراخهم على صوت الفرقة الموسيقية التى توقفت وتوقف الزفاف وراحت الأسرتين تتراشقان بالألفاظ، وتلقى كل منهما باللوم على الأخرى.

تدّخل أهل الحى وفضوا الاشتباك، ودخل أهل العروس يحتفلون بهدوء فى بيتهم على صوت بعض الأغانى والزغاريد ودخل إسماعيل واختيه إلى شقتهم يسمعون القرآن، ويطلقون بعض الصراخ على فترات فكان المشهد أشبه بلوحة سريالية عجيبة تمثل الحزن والفرح والحب والكراهية، وظلت حديث الحى لفترة من الزمن، اختلف الناس فيها بين مؤيد لأسرة الأستاذ رياض ومؤيد لأسرة أم إسماعيل حتى خمدت نار الفتنة بعد أيام وغلفها النسيان مثل كل الأشياء التى تمر بنا.

ولم يعد يسمع لا صوت القرآن فى شقة أم إسماعيل، ولا صوت الأغانى والموسيقى فى شقة الأستاذ رياض، على الأقل خارج نطاق بيتهم، لكن بدأت معركة أخرى بين إسماعيل الذى راح يعرض شقة أمه للبيع ليحصل على نقود وأخواته البنات الذين يريدون الاستقرار بها وربما تزويج أولادهم فيها معركة ستستمر طويلا، وأرجو أن تنتهى على خير.

ومن صفات الزومبى التى لاحظتها أنهم يتركون كل شىء حولهم ويتنافسون ويتشاجرون على شىء واحد لايقبل القسمة إلا إذا مزقوه فلا ينتفع به أى منهم، ويرتاحوا لذلك، فلا يهم أن أحصل على شىء مادام الجميع لم يحصل على شىء، لا يسمح لأحد من القاع بمغادرة القاع وحده والمهمة المقدسة لا أن نلحق به إذا خرج ولكن أن نعيده إلى القاع معنا هذا منطق الزومبى.

ونكمل فى يوم أخر من يوميات زومبى فإلى اللقاء.

اقرأ ايضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى