طارق متولى يكتب: يوميات زومبى (50) زومبى أشباح الماضى

مع سقوط الأمطار لاحظت وجود بقعة ماء فى السقف فأنا اسكن فى الدور الأخير فى المنزل الصغير القديم الذى يتكون من ثلاثة أدوار فقط وهو منزل العائلة وعند سقوط المطر بغزارة هذا الأسبوع ورغم نزح الماء الذى قام به عم صابر البواب إلا أنه ترك أثرا فى السقف عندى فقررت أن أعمل عزل لسطح المنزل ومواسير لتصريف المياه.

والحقيقة أن شقتنا هذه التى اعيش فيها لم تجدد منذ زمن ومنذ رحيل والدى واخوتى وانا افكر فى تجديدها بالكامل لكنى دائما اتكاسل أو أتراجع عند نقطة البداية واؤجل تجديدها فكان عمل عزل للسقف فرصة لأتخاذ القرار بالبدء والتنفيذ.

كان علي أن أتعامل مع كثير من العمال الزومبى جدا فمنهم من يتقاضى اجره باليوم وهذا كان يريد أن يستمر العمل إلى ما لا نهاية والعمل الذى يستغرق يوما واحدا يعمله فى خمسة أيام حتى يربح أكثر ومنهم من يعمل بمبلغ إجمالى على العمل دون تحديد ايام معينة وهذا كان يريد أن ينجزه بأسرع ما يمكن وبدون إتقان حتى ينتهى منه ويأخذ عمل آخر مما جعلنى فى حيرة من أمري المهم.

بعد شهرين من المعاناة مع العمال فى حرف مختلفة سباكة ودهان وبلاط وغيره انتهيت أخيرا من تجديد الشقة بالكامل.

استبدلت الأرضيات الخشب المتهالكة بأرضيات سيراميك واستبدلت الشبابيك الخشب والشيش بشبابيك الوميتال وكل شىء اطقم الحمامات وحنفيات المياه وحتى باب الشقة الخشب القديم استبدلته بباب مصفح من الفولاذ حسب موضة هذه الأيام .

بعد أن تكبدت مبالغ طائلة فى عمل كل هذا أحسست إحساسا غريبا بعدم السعادة وبأن الشقة التى كانت تحتوينى أصبحت شىء غريب عنى رغم سعادتى بتجديد الشقة إلا أننى افتقدت الشقة القديمة جدا بكل تفاصيلها فهذه الشقة التى ولدت فيها وعشت فيها طيلة حياتى أصبحت مختلفة تماما وكأنى قد محوت ذاكرتها
وكأنها كانت تحتفظ بكل الذكريات والأحداث التى مرت بها والأشخاص الذين عاشوا فيها يبدو أنه غادروها مع التجديد.

أصبحت مكان بلا ذاكرة، اكتشفت قيمة الذاكرة والذكريات وتخيلت كيف يعيش الإنسان بلا ذاكرة فذاكرة الإنسان هى حياته.

وأذكر أننى قرأت أحد التقارير عن بعض العلماء فى أمريكا يعملون على اكتشاف دواء لازال تحت التجربة وظيفته أنه يمحو الذكريات وذلك لإستخدامه مع الجنود والضباط الذين عانوا مآسى الحروب ولا يستطيعون أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعى بسبب ما تعرضوا له، فأراد العلماء أن يكتشفوا علاجا لتخفيف آثار هذه الفظائع على العائدين من الحروب أو الذين يتعرضون لصدمات نفسية كبيرة.

وحسب التقرير يحاول فريق البحث أن يكون هذا الدواء مركزا على الذكريات الأليمة فقط وعدم محو الذاكرة بالكامل ولكنى أعتقد أنهم لن ينجحوا فى هذا فالذكريات لا يمكن فصلها والاحتفاظ ببعضها والتخلص من الأخر.

ذكريات الإنسان تسكن روحه تختبىء فى مكان ما في ذاكرته يسترجع منها الذكريات الجميلة ويتجاهل الذكريات الحزينة ويعرض عنها عندما تطفو على السطح، يتجنب ذكرها وأن كان من الأفضل كما يقول علماء النفس أن يخرجها ويواجه الندوب التى سببتها فالجراح النفسية كالجراح الجسدية تحتاج إلى التعرض للضوء والهواء كى تطيب .

لا أخفيكم سرا أننى ندمت على تجديد الشقة وليتنى كنت قد رممتها وإحتفظت بطابعها الأصلى كما يفعلون فى ترميم الآثار والمبانى الحضارية القديمة اكتشفت أن آثار البلاد والمبانى القديمة تمثل ذاكرة البلد والمجتمع الذى يعيش فيه ومن العار أو الخطأ الكبير أن نهملها أو نهدمها.

لهذا على حسب معلوماتي كان هناك قانونا فى مصر يمنع هدم البيوت والفيلات القديمة ذات الطراز المعماري الفريد ولكنى اعتقد ان مافيا العقارات والبناء قد تغلبوا عليه بعد أن رأيت كثيرا من الفيلات والقصور القديمة قد تحولت إلى عمارات شاهقة حديثة منظرها يخلو من جماليات البناء .

وعلى ذكر الذكريات والماضى لدينا زميلة فى العمل اسمها صفاء أمراة أربعينية لم تتزوج وتعيش بمفردها بعد وفاة والديها تعمل مسؤولة العلاقات العامة فى الشركة لكنها مهووسة بالسحر والاتصال بالموتى إذ أنها تأثرت بوفاة والدتها بالتحديد بشكل كبير وتؤمن أن والدتها لا زالت تعيش معها وتتصل بها.

ولولا أنها متزنة تماما وتعمل بجد لظن الناس أنها وصلت لحافة الجنون حكت لى ذات مرة أنها كى تتصل بأمها لابد أن تفعل بعض الطقوس مثل أن تجلس فى ظلام دامس وهدوء تام وتستدعيها بعقلها حتى تراها أمامها وتحدثها . احب اقولكم أننى فى هذا اليوم لم انم إلا وأنوار الشقة كلها مضاءة .

وأعتقد أن الأفضل لحالة صفاء أن تترك شقة والدتها وتعيش فى مكان آخر ولو لبعض الوقت فالحنين يكون جارفا احيانا ويجب على المرء أن يوقفه.

ونكمل فى يوم اخر من يوميات زومبى فإلى اللقاء.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى