د. ناجح إبراهيم يكتب: أمي ثم أمي ثم أمي
في هذا الشهر نوفمبر ماتت والدتي سنه 2011 كانت وفاتها صدمة كبيرة لنا فقد كانت نموذجاً فذاً للأمومة والحكمة والعقل والرحمة والعاطفة النبيلة وحب الخير للناس جميعاً فضلاً عن قيام الليل حتى آخر يوم من حياتها وصيام الاثنين والخميس وهذا المقال هو أحد مقالاتي عنها أقدمه للقراء عسى أن تنال بركاتهم ودعواتهم لها ولكل الموتى والأحياء.
• الأم هي قيثارة السماء التي تعزف أجمل ألحان الإحسان والرحمة في الأرض,ولولاها لتحولت الأرض إلي غابة, ولأصبحت المصلحة والأنانية هي السائدة,إنها رائدة الرحمة والإحسان بلا حدود.
• ما مرضت يوماً إلا وجدت أمي جالسة إلي جوار سريري أو قائمة تصلي وتدعو لي وهي تبكي,كلما أفقت أجدها تبكي وتدعو.
• أمي بالذات كانت من الجيل الذهبي للأمهات لم يكن لديها في بداية حياتها لا غسالة ولا ثلاجة, ولا أي جهاز حديث من أجهزة اليوم إلا بعد زواجها بأربعين عاماً, تزوجت صغيرة فأحسنت سياسة جدي وجدتي, وكانا شديدين,مات لها طفل جميل, وهي أقرب للطفولة فتحملت وصبرت ثم مات لها ابن كان الأول علي الجمهورية فصبرت, ثم مات لها ابن في الأربعين فصبرت.
• سجن أولادها وزوجها جميعاً كرهائن من أجلي فصبرت وتحملت,البيت الذي كان يضم 12 فرداً أصبح خاوياً, كانت تذهب لأربعة سجون متفرقة, المرج وطرة والاستقبال وأسيوط في أوئل الثمانينات, تحمل رأسها الزيارة عدة كيلو مترات قبل طفطف الاستقبال, تحملت وصبرت في صمت وكبرياء.
• كما كان بيتها مفتوحاً لم تعدم من صناع الخير, هذا يحمل عنها في القطار, وهذا يساعدها في الطريق, وهذا يستضيفها في القاهرة, كان بيتها دائماً مفتوحاً للجميع عامراً بالخيرات كان بيتاً كبيراً من البيوت القديمة,كان كل واحد من أبنائها له ضيوف وأصدقاء, كان يمكن أن يأكل في هذا البيت في اليوم الواحد أكثر من عشرين ضيفاً, وكان لها تصنيف للضيوف, الصديق الدائم من بلدتنا يأكل من طعامنا العادي,الضيف الغريب تجهز له اللحوم سريعاً, في البيت كل شيء الدجاج ,البط, البيض, الأرانب, كل الأطعمة وأنواع الخبز في غرفة الخزين, نصف ساعة تذبح الفرخة ويجهز الطعام.
• كان مرتب أبي ينفذ في اليوم العاشر ولكن غرفة الخزين تتولي المسؤولية بفضل الله, تحملت أمي مسؤولية عشرة أولاد, خرجتهم من الجامعة جاوزت بهم كل المحن, وصبرها معي في أزمتي يكيفها وحدها.
• كانت تحب كل الناس لا تكره أحداً, ما خبزت يوماً إلا ووزعت علي جيرانها جميعاً, علمتني كيف أستقبل الضيف وأكرم الفقير, وأذهب لأقاربي لدفع الزكاة بطريقة لائقة, كنا متوسطي الحال ولكنا دوماً نتعلم منها العطاء, ما أحضر أحد من أبنائها شيئاً جميلاً إلا ووزعته علي جيرانها وأحبابها, ما قابلت أحداً من الناس لا أعرفه إلا وقال أنا أكلت في بيتكم, كان طعاماً جميلاً لأن فيه روح المحبة والمودة.
• كانت متصالحة دوماً مع زمانها,مكانها, ومن حولها, ومع الكون كله.
• في آخرة عمرة لها مع شقيقي شريف أوقفته عند كل محل لتشتري لكل جارة أو صديقة أو فقيرة تعرفها, ثم اشترت لرجل فقير كان ينظف البيت اسمه “وليم” يعيش وحدة ثلاثة أثواب, كانت تعتبره ابنها, وفي آخر أضحية أصرت ألا تأخذ منها شيئاً إلا ما طبخته لـ”وليم” لأنه يعيش وحده وقالت لحفيدها أيمن, هذا لجارتنا فلانه وهذا لفلان حتى وزعتها جميعاً, كانت تشعر أنها ستموت بعد العيد فلم تستبق شيئاً فلما جاء وليم بالحلة الفارغة وجد جنازتها فأخذ يبكي لأنها كانت تتبناه.
• وضعت سيناريو وفاتها قبل موتها قالت لابنها مجاهد ستدقون الباب فلا يرد أحد, فيقفز أحدكم من بيت الجيران ويدخل علي فيجدني متوضئة ونائمة علي جنبي الأيمن سعيدة بلقاء ربي, رغم عدد الأحفاد الكثير ماتت وحدها كما قالت, البيت مرتب ونظيف كالعادة.
• كانت لا تترك صيام الاثنين والخميس ولا قيام الليل حتى بعد أن جاوزت الثمانين عزيمتها فولاذية, حكيمة,قليلة الكلام فإذا نطقت تدفقت حكمتها,ما أشارت علي برأي إلا وكان صائباً لأنه كان ينحدر من نور الله وإخلاصها, كانت تمثل التدين الحقيقي أما نحن فتدينا مغشوش.
• تدين أمي كان أصفي وأنقي وأسمى وأعمق وأدق من تديني, لذلك أهتف مع الإمام الغزالي: “ياليتني أموت علي ما ماتت عليه عجائز نيسابور”.. وأضيف: “وعلي ما ماتت عليه أمي التي كانت متصالحة مع السماء والأرض والكون ومحبة لله ورسله والناس جميعاً”.
• أمي قصة كفاح عظيمة, كنت فصلاً فيها, وشقيقي صلاح الذي حضر حرب 73 وعبر القناة فصلاً آخر, مع فصول أخرى كثيرة, اجهاضات, ووفيات, ومعتقلات.
• كفاح متواصل لا يعرف الراحة, ولكن الأمل والرجاء في الله لم ينقطع عن قلبها, تصوروا فتاة صغيرة لا تجاوز الـ 15 عاماً ربت عدة أطفال وتسوس أبي وجدي وجدتي, في يوم تخبز,وآخر تغسل, وثالث تطبخ,ورابع تنظف, وتستضيف في بعض الأيام أكثر من عشرين ضيفاً, وقرابة عشرة ضيوف شبه ثابتين.
• أمي تنحدر من أصول كردية من ديروط الشريف التي دشنها الأمير سنان ابن عم صلاح الدين الأيوبي, حينما تزوج جدي لأمي من امرأة خارج العائلة طرد من بلدته, لم تكن أمي مجرد امرأة عادية بل كان العقل والحكمة يتدفق من كلماتها وكأنها تقرأ الواقع والمستقبل, ما خالفها أحدنا في رأي إلا كان رأيها هو الأصوب.
• ما يشق عليَّ دوماً ويؤرق مضجعي أنني كنت سبباً في عنتها, من كرمها لم تشعرني يوماً بالعنت الذي عاشته, كانت كريمة النفس غاية في الرقة في المشاعر والحكمة في القول, ولا أدري كيف فقدت معظم الأمهات خريجات الجامعة الآن حكمة ودقة ورقة جيل أمهاتنا الذي لا يعوض, لم أستطيع أن أوفيها شيئاً مما صنعته من أجلي وهذا يعذبني باستمرار.
• اكتشف كل يوم بعد موتها أنني لم أشبع منها وأن معيشتي في الإسكندرية بعيداً عنها ربما كان خطأ مني, ولكني أشفقت عليها من القلق المدمر الذي كان ينتابها وأنا قريب منها وهي تردد: “يا بني لا تذهب إلي هنا أو هنا”, أشفقت عليها من القلق المتواصل فأعفيتها منه, أحيانا يكون البعد قرباً, والقرب قلقاً.
• أمي يا قرة عيني سلام عليك يا من كنت نوراً وضياءً وحباً وكرامة لحياتنا, سلام عليك يا أمي ندين لك بحياتنا وأعمارنا وبركات أسرنا وخيراتنا, فنحن نعيش في بركاتك وكراماتك وببركة دعائك.