د. ناجح ابراهيم يكتب: أمى
• كانت متصالحة مع زمانها والكون كله, كانت حكمتها وتقديراتها تنحدر من إخلاصها وتنبثق من نور الله الذي يضيء قلبها,كان تدينها أفضل من تديني ,كان أصفى وأنقى وأعمق وأسمى من تديني ,كان يركز على الجوهر وفقه المآلات وفقه المصالح والمفاسد, دون أن تقرأ شيئاً عن هذا الفقه ,ولكن نور القلب والضمير أضاء لها جنبات هذه الحكمة فظهرت جلية لها.
• تدين أمهاتنا القدامى كان تديناً حقيقياً أما تديننا فكان مغشوشاً تغشاه المظاهر ويحب الغلبة والشهرة, أما تدين أمي وأشباهها من جيلها فهو أشبه بالتدين الفطري الذي ماتت عليه عجائز نيسابور, والذي تمنى إمام الأئمة أبو حامد الغزالي أن يموت على ما ماتوا عليه, بعد شهرته كأعظم عالم فقه وأصول وتربية في العالم الإسلامي كله والذي خاض آلاف المناظرات الفكرية والفقهية,هذه خلاصة عمره وأعمارنا أيضاً.
• كانت أمي غاية في الحكمة فقد تأخر شقيقي الأكبر وزوجته في الإنجاب لفترة طويلة وصلت إلي 11 عاماً,يقول شقيقي أ/عزت: كل هذه السنوات لم تتدخل أمي في حياتي ولم تسألني يوماً ولا زوجتي هل ذهبتم للطبيب, لماذا لا تذهبوا للطبيب فلان,لم تجرح مشاعرنا يوماً قابلت ذلك بالصمت والدعاء,لم تقل لي يوماً طلق زوجتك أو تزوج غيرها,أو تزوج عليها , في الوقت الذي تتدخل الحموات في هذا الأمر من الشهر الأول للزواج ولا توجه الأسئلة لابنها بل للزوجة المسكينة وكأنها السبب وحدها في الأمر.
• كم سمعت في عيادتي الآهات والآلام المكبوتة لهؤلاء الزوجات اللاتي لا يجدن حيلة ولا طريقاً للرد على الأم التي لا تمل من هذا السؤال كلما التقت زوجة ابنها.
• أمي كانت نموذجاً فريداً لم تتدخل في حياة أحد من أبنائها,ولم تفرض نفسها يوماً على زوجة من زوجاتهم,ماتت وهي تنثر الورود طوال حياتها على كل من حولها.
• دعوة المسيح تتلخص في عبادة الله وتوحيده من جهة, ونشر المحبة من جهة أخرى, هتافه الشهير “الله محبة” يلخص دعوته وكلك هتافه “أنا خبز الحياة”, وكأنه جاء ليسعد الحياة والأحياء, لينشر العفو والسلام والرحمة ويحارب الأنانية والحقد والكراهية, كان ينشر الخير بين الناس, وهو أول طبيب يشفي الناس دون أجر ودون مقابل, آلاف الحالات برأت من أخطر الأمراض, كان يبرأ الأكمه – وهو الذي ولد أعمى وهو أخطر أنواع العمى وأصعبها – ويبرأ الأبرص “البهاق”, وكلا المرضين لم يستطيع الطب الحديث أن يبرأهما ويشفيهما ” وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ “.
• أما الثالثة فهي أصعب وأشق ولم تحدث إلا مع المسيح عليه السلام إذ كان يحيي الموت بإذن الله, كان يفعل ذلك في القرى والنجوع وقرب سفح الجبال, كان يسير على قدميه, لا سيارة ولا موكب ولا خدم ولا حشم ولا برستيج, وهكذا الدعاة بحق يخضعون لربهم ويتواضعون لخلقه.