د. قاسم المحبشى يكتب: قراءة في رواية أحمد الرقيمي (2من2) حينما يبحث اليمني عن ظله المنسي

لا شيء في الرواية خارج المعنى منذ العتبة العنوان وحتى الكلمة الأخيرة فيها، والسياق هو كامل الوسط الثقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه الرواية ويحيط بها من كل الاتجاهات.

وعلى عكس نظرية النص وموت المؤلف فإنني أرى أن الرواية هي خطاب أكثر من كونها مجرد نصًا ملقي على قارعة الطريق لمن أراد استنطاقه.

ولا أدري كيف يمكن النظر إلى رواية ولدت لتوها وفي حضور صاحبها؟ إيعقل التعامل معها بوصفها نصاً فقط أم هي خطاب في نص؟.

والنص هو كل كلام مكتوب ومدون تدوينًا يدويًا أو كمبيوترا رقميًا بغض النظر عن نوعية ومحتواه، سواء كان نصًا أدبيًا أو دينيًا أو علميًا أو فلسفيًا وهلمجرى.

وهو بذلك يختلف عن الكلام الخطاب الشفاهي بوصفه محادثة مباشرة بحضور الصوت وناطقه إذ يشكّل الصوت المنطوق المسموع جوهر ومحور الثقافة الشفاهية لكن الصوت كحاسة إنسانية يحدث في الزمن مثله مثل كل الإحساسات الأخرى غير أنه يتميز بعلاقة خاصة مع الزمن، ذلك لأن الصوت لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى إنعدام الوجود، فليس ثمة طريقة لإيقاف الصوت وتثبيته، فيمكنك إيقاف آلة تصوير متحركة وتثبيت الصورة على الشاشة.

ولكن إذا أوقفت الصوت فلن يكون لديك شيء سوى الصمت فحسب، فالصوت يقاوم مقاومة كاملة محاولة التثبيت، بعكس البصر الذي يمكنه أن يسجل الحركة ولكنه أيضا يسجل السكون والصمت، بل أن البصر في الواقع يفضل السكون على الحركة فلكي نفحص شيئا عن قرب ببصرنا يستحسن أن نمسك به ساكناً.

لكن الصوت وحده هو الذي لا نستطيع التعرف عليه إلا في حالة الحركة أي في لحظة ميلاده المباشر وانطلاقه الفوري من حنجرة المتكلم لكنه ما أن يتوقف حتى ينعدم ولا يترك أثراً مميزاً، وتلك هي خاصية الثقافة الشفاهية الصوتية بعكس ما هو عليه الحال في الثقافة الكتابية – أقصد ثقافة الكتابة والتدوين والتوثيق والنصوص – اذ تشكل الكلمات المكتوبة بقايا وآثار منقوشة أو مخطوطة في نصوص وعلامات ورموز تقاوم الزمن ونستطيع أن نقرأها أو نراها أو نلمسها في أي زمان ومكان بعد ميلادها وبعد موت صاحبه.

الرواية خطاب حي وليس نصًا ميتاً، إذ يفترض الخطاب وجود سامع يتلقى هذا الخطاب ،بينما يتوجه النص إلى متلقي غائب. الخطاب نشاط تواصلي تفاعلي تبادلي بين فاعلين حاضرين وجها لوجه يتأسس- أولا وقبل كل شيء – على اللغة المنطوقة ولغة الجسد وحركات اليد وتوهج الانفعال. لخطاب متعدد المعاني، فهو وحدة تواصلية إبلاغية، ناتجة عن مخاطب معين وموجهة إلى مخاطب معين في مقام وسياق معينين يدرس ضمن ما يسمى الآن بـ “لسانيات الخطاب”.

أنه فاعلية تواصلية يتحدد شكلها بواسطة غاية اجتماعية. أما النص فهو أيضا تواصل لساني مكتوب. وتبعا لهذا فإن الخطاب يتصل بالجانب التركيبي والنص بالجانب الخطي كما يتجلى لنا على الورق.
في رواية الظل المنسي استطاع الرواية حميد الرقيمي أن يوظف كل تقنيات السرد المعاصر للتعبير عن صوت اليمن المنسية وأوجاعها في عالم شديد الاضطراب والفوضى. عالم لم يحد فيه أحد ينصت إلى أحد، فقد حفلت الرواية بمجموعة من الأصوات والخطابات التي تعبر عن الشرائح الاجتماعية المختلفة، التي وجدت ذات وجها لوجه في ساحة المدينة المحطمة؛ اطفال ورجال من مختلف الاعمار ونساء ، أمهات واباء وحوارات واحداث وسجن وسجان وأصدقاء وأشقاء ورسائل وجوابات.

الظل المنسى تعبيرا زاخرا بأقصى معاني الشعور بالغربة والاغتراب والضياع في وضع تراجيدي عاشه بطل الرواية
وساردها.

” مضت نصف ساعة وأنا لم أتحرك من مكاني، طلب مي أحدهم أن أخلع المعطف حتى لا يتعب خطوات الشمس الحارقة، استجبت لهذا التعبير المجازي، وبينما أنا أخلعه قفزت من أحد جيوبه صورة قديمة أحملها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً …. وجدتها على الأرض ولم ألحظ كل هذا التغيرُّ الذي حسبته فاصلاً يوليني اهتماماً كريماً، تحركت من مكاني لالتقاط الصورة التي وجدتها فرصة للحديث عنها، وقبل أن انتشلها من مكانها الذي تحول إلى قبلة أعينهم، انفجر صوت واحد بأيادٍ تشير إلى ذلك الصامت المنزوي على نفسه: “هذا أنت يا مصطفى” فأغمي عليه”.
كان ذلك الزائر الغريب للمدينة التي كانت سعيدة ذات يوما بحسب الروايات، ولكنه جاء اليها وقد اختفى كل شيء وتحولت إلى ركام وأنقاض، لم يعد أي شيئا واقفا هنا ولا ملامح تدل عليها.

لا شخوص ولا ظلالات هنا. وحدها الصورة التي سقطت من جيب المعطف الذي كان يرتديه الزائر الغريب هي من فتحته باب التعرف على المدينة وأهلها. تلك هي صورة مصطفى بطل الرواية الذي كان يحملق في الفضاء بصمت حزين فأغمي عليه حينما عرف سمع صوت يقال له (هذا أنت يا مصطفى” فأغمي عليه” ولم ينهض بعدها أبدا.

وكما تمكن الرواية من توظيف الصورة الفوتغرافية في البنية السردية كذلك استلهم البردوني بوصفه عتبة النفاذ إلى المعنى والدلالة:

لأني دخــلتُ السجــن شهراً، ولــيلةً
خرجتُ، ولكن أصبح السجن داخلي
يالها من صورة ودلالة تلك التي يحملها هذا البيت الشعري الذي ثبته حميد الرقيمي في مستهل الرواية أنه يكشف عن المعنى السيكولوجي للحدث والذاكرة فليس بمقدور المرء التخلص من ذاكرته الموجوعة بالآلام والعذابات التي تركتها الحرب في اغوار النفس والضمير.

وما أقسى التاريخ وحمله الثقيل حينما يكون تاريخا مثل هذا الذي تنقشه الحروب والخراب كل يوم في اليمن، وهذا هو المعنى العلمي لما قاله البردوني في البيت الشعري إذ حينما يتكرر السلوك يصير عادة وحينما تترسخ العادة تصير ثقافة، ولا تكمن مشكلة العنف في أضرار الواقعية المباشرة التي يحدثها في الأجساد والنفوس بمستويات مختلفة بما يتركه وينمّيه من أثار غائرة في القلوب والأذهان. و

خطر موجات العنف الذي تفتك بالمجتمعات العربية الإسلامية اليوم بمختلف أنماطها واشدها قسوة وهمجية ووحشية منذ عقود تعد بكل المقاييس أسوأ كارثة اجتماعية إنسانية على الإطلاق.

رواية الظل المنسي للروائي الشاب حميد الرقيمي، رواية بارعة لخصت مأساة شعب كان عظيما في يوم من الأيام فاهلكته الشهوات والحروب والصراعات الداخلية والاستقطابات الإقليمية فغدى هباءا منثورا في مهب العواصف والرياح.

الأجسام وظلالاتها فلا يمكنها الظهور والحضور الا في ضوء النهار أما في الظلام فتبدو جميع البقر سودا! والحنين وجع الذاكرة.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى